.. ونفسي لا تستطيب النفاقا
عندما مارست الكتابة، لم انتظر مكافأة من احد.. ولا وسام
البطولة من احد.. ولا رشوة من احد.. ولا جائزة من احد.. ان جائزتي الكبرى هي هذا
الجمهور الذي يلتف حول ما اكتب، ويعطيني القوة والعنفوان، ويعطيني المناعة كي لا
اكون كاتبة (الباب العالي)..
ان ميكانيكية الكتابة عندي صارت مرتبطة ببلدتي وهمومها
واشجانها.. وعندما اتركها انسى القراءة والكتابة ..
انني لا أكتب كي استرضي، أو اجامل، أو اطلب مرضاة الشارع
العام، فهموم الشارع العام تخرج من داخلي، والقلق العام هو جزء من قلقي.. اي
بعبارة اخرى، ليست هناك اوامر خارجية انصاع لها.. أو تُجبرني على الكتابة أو على
عدم الكتابة.. أو تختار لي مواضيعي.. فأنا ارفض الكتابة على طريقة (ما يطلبه المستمعون
أو المسـ...) ولا اطلب شهادة حسن السلوك من احد، الوحيد الذي اطلب رضاه هو ضميري..
لا يمكنني ان اتصور كاتباً لا يقاتل من اجل رأي ما.. أو لرفع الظلم عن انسانٍ ما..
اذ ما قيمة كتابة تخاطب الفراغ.. أو تخاطب نفسها.. أو تكون بلا لون، ولا طعم، ولا
رائحة.. انا ضد الكلام الذي يُكتب من اجل التكسب.. وضد الكلام الذي تكتبه الاغنام لاسترضاء
راعيها.. فإما اكتب بصدق أو لا اكتب.. فسكوتي حينئذٍ يكون الف مرةٍ أبلغ من
الكتابة..
ولكن للأسف عندما أسكت (أي لا اكتب في بيث عنكاوا)،
يفسره البعض -إما جهلاً أو خبثاً- على انه قد تم شراء سكوتي.. وقد تعوّد المواطن
في عنكاوا على ان الهبة أو الرشوة عادةً ما تكون (قطعة ارض سكنية أو مساطحة)، وانا
اقول لهؤلاء وهم -يقيناً- قلّة قليلة: عليهم القيام بعمل مُضنٍ لحصر حصيلتي من
الهبات.. فعليهم اولاً ان يطّلعوا على جميع اعداد الجريدة (بيث عنكاوا) الصادرة
على مدى (6) أعوام، ويحصوا بدقة الاعداد التي لم ينزل لي فيها مقال، وهي قد تربو
على العشرة.. عندئذٍ سيكشفون ما بذمتي من قطع اراضٍ جنيتها ثمناً لسكوتي.. اذاً،
غيابُ مقالٍ بقطعةِ ارضٍ! يا للسخرية!! ثم لا ادري كيف غاب عنهم، لو انني كنت انشد
عالم الجاه والثراء لولجته من اوسع ابوابه واصبحت كاتبة (الباب العالي).. فلماذا إذن
ارضى بالفتات ؟!.
اذا كان هؤلاء من البسطاء، فيا لغبائهم.. وان كانوا مأجورين،
فيا لبؤس اسيادهم.. لان ادعاءهم هذا لا يثبط همّتي..ولا يُلغي بصيرتي.. ولا يزعزع
ثقة الشرفاء بنزاهتي.
في كل مرة ينزل لي مقالٌ في الجريدة، تُثار حوله عاصفة
هوجاء غير مبررة، وانا وحدي و -وحدي فقط- اتحمل وزرها.. وادفع من اعصابي ومن صحتي
ثمناً للصمود والتصدي.. فأستراح حيناً ثم اعاود عندما أجد ضرورة للكتابة.. لأنني
لا أحب ان اكتب من اجل الكتابة فقط.. وعندما يفرض الوجع نفسه عليّ، يفيض قلمي
صدقاً وغضباً على بياض الورق..
في هذا الاطار غير المريح، وهذا الطقس غير المعتدل، وهذه
البحار التي لا سواحل لها.. أمارس الكتابة..
جنان بولص كوركيس
عدد 46
تعليقات
إرسال تعليق