كيف ارى عنكاوا الآن ؟
ابو يوسف
عنكاوا/ اربيل
الحديث عن عنكاوا يكاد لا يشبع منه، انها المدينة
الجميلة، مدينة الشمس والثلج والطيور، مطارها الذي يعج بالحركة ليل نهار، واصوات
طائراته المدوية ماهي الا اجراس اليقظة تدق باستمرار تقول في الناس هيا الى
العمل.. فانتم بحكم موقعكم اصبحت مدينتكم عين العراق . اليس عظيماً ان تنبثق من
هذه النقطة الصغيرة على الخارطة كل هذه الينابيع والجداول والشلالات، تروي بساتين
الحرية والسلم والامان في هذه البقعة من ارض الله الواسعة، التي تمور بالاحداث
الجسام من تقتيل وهدم للبيوت وتشريد وتجويع .
اهل كوردستان وحدهم اختاروا الحياة وفضلوها على الموت
العبثي الذي لا طائل منه، لقد قاتلوا بشجاعة وتضحية منقطعتي النظير طيلة عقود من
السنين ومعهم قلوب الاحرار من العراقيين والعالم اجمع . ولما جاء السلام قبلوه
منعمين شاكرين، وها هي مدنهم تشهد لهم بالحكمة والقوة والجمال .
ان انبثاق عنكاوا مثل انبثاق قرطاجنة ومعناها المدينة
الحديثة، ليس الا ثمرة من ثمار السلام الذي يجعل المدينة المثل الاعلى للرخاء، وبوابة البهجة والسرور، مما يفرح الصديق وليس من
داع لاغاضة العِدى.
عنكاوا مدينة حديثة ناجحة، ولابد لكل نجاح من نظرة حاسدة
او مباركة .
لقد فاجأني سائق سيارة الاجرة – تاكسي- الذي كان يُقلني
من اربيل الى عنكاوا عند استدارته بالسيارة نحوها، وزفر زفرة حرّى وقال:
- هذه عنكاوا! باريس!!
لم يزد على
هاتين الكلمتين ولم اُعلّق، بل رمقته بنظرة شملت كيانه كله لارى واحلل معنى كلمة
باريس التي نطقها ويقصد بها عنكاوا.
عند مدخل
المدينة الرئيسي وقد اصبح الشارع الكبير الذي تجرى فيه اعمال التبليط وراءنا،
بادرت السائق بالكلام :
- هذه عنكاوا.. التي اسميتها باريس انها مثل مدينتكم
العظيمة ، اربيل المناضلة ، لقد كانت المدينتان منبعين لاتنضبان للمناضلين
والابطال الذين عبدوا طريق الحرية- ازادي- لهذه الربوع .
تعجب من
معلوماتي عن المنطقة، مع انني لا اتكلم الا لغة بالكاد يفهمها، ومن ملامح الغربة
البادية علي، واكتفى بالصمت، الا ان عينيه فضحتاه عند عبور فتاتين في ربيع العمر
للشارع وتركيزه النظر الى ملابسهما.
ومن اجل ان
نتفهم اكثر كيف ينظر الاخرون الى عنكاوا، علينا بملاحظة ما يقولونه عنها.
متحدث في احدى
الفضائيات تطرق الى المقارنة بين اربيل وعنكاوا قائلا:
- هذه عنكاوا! الحى اللاتيني لاربيل، اربيل تنام في الساعة
السابعة مساء وعنكاوا تبدأ سهرتها ولاتنتهي حتى ساعة متأخرة قبل قدوم الصباح،
فتيات عنكاوا- والحديث مايزال لهذا الاديب السميدع - يملأن شوارعها بملابسهن ..
ولم استطع مواصلة الاستماع لهذا المسخ الثقافي، لانني من طبعي ان ارفض الاستماع
الى المبالغات التي لايقبلها الذوق السليم.
من
المعلوم ان عنكاوا منطقة مسيحية في
غالبيتها "كلدان "، موغلة في القِدم، وقد درجت على امتصاص واستيعاب
حضارات عدة، وترويضها وتطويعها لتتلاءم مع المألوف الذي درجت عليه من دون تبذّل او
تزمت. ومن يستكثر على اهل هذه البلدة المسيحية نمط حياتهم، فانه يظلمهم من دون
مبرر او وجه حق.
عنكاوا، باريس،
الحي اللاتيني .. نعم انها باريس النور والمدنية، باريس المفكرين والثوار والشهداء
من دانتون ومارا و ديمولان وحبيب المالح وناديا كوركيس، وكل شهداء حرية الفكر
والمبادىء الخلاقة.
هي الحي
اللاتيني لفولتير وفكتور هوجو وسارتر وسهيل ادريس.
عنكاوا هي جمعية
الثقافة الكلدانية، منارة عنكاوا التي تزين مدخلها .
هي كنيسة
ماريوسف، نوتردام عنكاوا، ومعقل قساوستها المثقفين المستنيرين .
انها الخضرة
الدائمة وحمرة ثمار الفكر والثقافة .
هي المروج
الخضر التي غادرت قلب المدينة وبقيت تنتظر –
على الاطراف- من يعيدها احزمة خضراء واشجاراً مثمرة تطوق
خصر المدينة.
ان عنكاوا
اليوم اذ تمتد افقياً في البناء وعمودياً في الفكر، تستمع الى كل الاصوات وتتقدم
دون ان تترهل او تتمطط .
تعليقات
إرسال تعليق