مشاكســـة...........حليـــب الحميـــــر ... والفســـاد منقطـع النظيـــــــر



مال اللـــه فــرج

فجأة تحولت قاعة الصف الرابع الابتدائي الذي كنا تلامذة مشاكسين فيه في المدرسة المنذرية بالموصل، الى ساحة للفوضى والمصارعة الحرة تفوق بصخبها وضجيجها فوضى العشرات من اسواق الهرج، بعد ان وصلنا الخبر السعيد بتأجيل امتحان الرياضيات بسبب غياب معلم تلك المادة في ذلك اليوم.
واحتفالا بتلك المناسبة السعيدة، سارع بعضنا برشق الآخرين بقطع الطبشور، وانهمك اخرون بالملاكمة بينما اندمج اخران بالمصارعة الحرة، استغل تلميذ اخر الفرصة ليقلد دور ام العروسة وهو يرفع حنجرته بالهلاهل والزغاريد ، وتبرع اخر برسم تخطيط على السبورة لحمار ينهق بقوة مثبتا عليه اسم احد زملائه لتنشب بينهما معركة حامية الوطيس، أما زميلنا (صبــــاح) الذي كان المحرك الاساسي لكل موجات الفوضى العارمة (غيـــــر الخلاقـــــــة بالطبــــــع) تلك واكثرنا شقاوة ومشاكسات ومقالب وصخبا وعراكا، فقد راح يتقافز فوق الرحلات ذهابا وايابا وكأنه بهلوان متمرس ينافس بسرعة تنقلاته على الرحلات سرعة كل بهلوانات السياسة في عصرنا الراهن، الذين ادمنوا الرقص على كل الحبال وفق مصالحهم ، وقد نجحنا فعلا بمهمتنا الفوضوية تلك نجاجا باهرا واستطعنا تحويل الصف الى سيرك من الفوضى العارمة.
في خضم ذلك الانفلات الفوضوي، اطل مدير مدرستنا مسرعا حاملا بيمناه عصا الخيزران التي لم تكن تفارق يده الا نادرا والغضب يتطاير شررا من عينيه، صعقه المشهد فوقف مذهولا في الباب للحظات غير مصدق ما يرى، وربما فشل في تحديد الاهداف الستراتيجية المختارة التي يجب ان  يهاجمها اولا ، فقد اصبحنا جميعا بالنسبة له في تلك اللحظات اهدافا مشروعة، واذ حدد لحظة الصفر وقرر خوض المعركة اطلق تحذيره وشتائمه بسرعة رشاش اوتوماتيكي علينا صارخا بنا (كــــلاب .. حيوانات ..حميـــــر .. هـــــل هـــــذا صــــف ام اســــطبل ؟؟؟) وما لبث ان انهال على الجميع بالضرب المبرح والشتائم الشفافة متمازجة حيثما أمكن بقذائف البصاق الرومانسية الموجهة بدقة نحو اهدافها دون ان يستثني احدا، وكانت حصة زميلنا (موفـــــق جميــــــل) رحمه الله النصيب الاوفر، فقد كان يفوقنا طولا مما جعله هدفا ثابتا ومحققا لا تخطئه العصا ولا القذائف الاخرى.
في خضم تلك الصولة العزوم اطلق مديرنا الفاضل شتيمته الشهيرة بوجه احد زملائنا الذي كان اشدنا صخبا: (مــن المستحيـــــل ان تكــــون قـــــد رضعـــــت حليـــب والدتــــك .. لان ما فعلتــــه لا يفعلـــــه الا مــن رضــــع حليــــب الحميــــــر) .
ومن يومها أدمنا وصف اكثرنا شقاوة وعنفا وصخبا ونشاطا وشغبا وعراكا ومشاكسة وضجيجا براضع حليب الحمير، ونمازحه بمناداته (ابو حليب القواطي) ، لإيماننا الطفولي آنذاك بان من يرضع حليب الحمير يكون اكثر قوة ونشاطا وتحملا من الانسان، اسوة بالحمير أنفسهم، وبالطبع فقد اشعلت تلك ( المزحـــة) الطفولية حرائق الكثير من المعارك  الشرسة الفاصلة التي خضنا غمارها انذاك ضد بعضنا بشجاعة فروسية منقطعة النظير.
اما في ميادين العمل فقد استبدل البعض صفة (حليــــب الحميــــــر بالحليـــــب الصناعي المعلـــــب)، وكلما كان احدهم يشاغب ضد زملائه واصدقائه وينكث تعهداته وينافق ويمارس الكذب، كانوا يصفونه ببساطة بانه لم يترب على حليب امه بل على حليب العلب (القواطـــــــي)، بكل ما يعنيه ذلك من افتقاده للتربية وللاخلاق الرفيعة، وما يعنيه ضمنا من تقديس واجلال لحليب الام ودوره في تربية اجيال صالحة.
ولا يفوتني ان استذكر هنا حملات تشجيع (الرضاعــــــة الطبيعيـــة) التي نهضت بها مختلف المنظمات والمؤسسات المعنية في زمن النظام البائد، للتغطية على اثار الحصار الاقتصادي في ايامه الاول الذي تسبب في شحة الحليب الصناعي في الاسواق، في حين اثارت فتاوى (ارضــــاع الكبيـــــر) الكثير من الجدل وردود الافعال المختلفة، فقد تمنى بعض (الخبثـــــاء) تعميمها على الدوائر والمؤسسات لاشباع غرائزهم وجوعهم الجنسي، بعد أن حدد ربما كلا منهم في ذهنه هدفه الانثوي بدقة.
الا انني وبعد نصف قرن من شتيمة مديرنا الفاضل حول حليب الحمير، فوجئت بخطئنا الستراتيجي الطفولي آنذاك عندما اعتبرنا الامر(شتيمة)، فقد اثبتت التجارب العلمية ان حليب الحمير أكثر فائدة من حليب البقر والجاموس والماعز والنوق والنعاج ، وبعد ان كنا نتصور ان الاجبان الاغلى في العالم مصنعة من حليب الابقار الهولندية المدللة، تبين أن مصدرها هو حليب الحمير! حيث يبلغ سعر الكيلو غرام الواحد من الجبن المصنع من حليب الحمير (1000) الف يورو،  ويبلغ سعر الليتر الواحد من الحليب الحميري(40) يورو، وقد اثبتت الدراسات العلمية ان شرب حليب الحمير يحافظ على الرشاقة والجمال والخصر النحيل وصحة القلب، وسط توقعات وادعاءات بأن سر جمال ورشاقة الملكة كليوباترا كان تناولها لحليب الحمير واستحمامها به لتفتيح بشرتها والحفاظ على نضارتها، ويقال أنها كانت تحتاج إلى ما لا يقل عن 700 انثى حمار لتوفير الحليب اللازم لاستحمامها ، وهو ما تقوم به الآن بعض مراكز التجميل العالمية، بل ان هنالك اتجاها متزايدا في اوروبا لاستهلاك حليب الحمير، وتم تأسيس مزارع كثيرة لتربية الحمير واكثارها في بلجيكا واليونان وفرنسا وايطاليا وتركيا وغيرها، ويستخدم هذا الحليب في صناعة الالبان والاجبان والصابون والعطور ومستحضرات التجميل والمشروبات الكحولية العالمية، وقد وجد الباحثون في جامعة نابولي الايطالية أن حليب الحمير مغذٍ جدا لأنه يحتوي على لاكتوز أكثر ودهون أقل من حليب البقر، وبه نسبة عالية من الكالسيوم، ويساعد في تقليل نسبة الكوليسترول وحماية القلب لأنه يحتوي على أحماض أوميغا 3 الدهنية. وخلصوا أيضا الى أن حليب الحمير مشابه جدا لحليب المرأة، وأنه يمكن استخدامه للأطفال الذين لديهم حساسية لمنتجات الأبقار. وسبق ان اكد باحثون، قدموا نتائج ابحاثهم في المؤتمر الأوروبي الخاص بالبدانة الذي سبق ان عقد في تركيا قبل سنوات، على أنه ينبغي تشجيع استهلاك حليب الحمير.
كما استخدم حليب الحمير سابقا في الطب. فمن خصائصه المتعددة  التي وصفها أبو الطب أبقراط (460-370 قبل الميلاد)، معالجة مشاكل الكبد والأمراض المعدية والحمى ونزيف الأنف وحالات التسمم وتضميد الجروح.
ان الوقوف ازاء الحيوية الكبيرة والنشاط غير الاعتيادي الذي يمنحه حليب الحمير لمن يتناوله، مترافقا مع تأملات واقعية لافرازاته على الارض، ربما يسهم في اماطة اللثام عن سر الحيوية اللصوصية للسياسيين والمسؤولين الفاسدين وابنائهم المنفلتين في مختلف الدول النائمة والعائمة والمتسولة والمتوسلة والساهمة، وهم يمارسون انشطة حيوية مستمرة تفوق بسرعتها انشطة الانسان الاعتيادي الذي تربى على الرضاعة الطبيعية، لاسيما في ميادين السرقة والاختلاسات والكذب والدجل والخداع وابرام العقود الفاسدة والوهمية وانتزاع العمولات والقفز مثل البهلوانات على حبال النفاق السياسي من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، واذلال الانسان وبيع الاوطان واستباحة المصالح الحيوية الوطنية لخدمة المصالح الاقليمية والدولية، من اجل المنافع الشخصية وجمع المال الحرام ليل نهار دون تعب او كلل، واقامة العديد من اقطاعياتهم الاقتصادية والمالية الخرافية في خارج بلدانهم، وامتلاكهم وابنائهم خلال فترات قياسية عشرات المليارات في الوقت الذي تغرق فيه شعوبهم المعدمة بالعنف والازمات والمجاعة والتحديات.
ربما سيكتشف الباحثون أن سر هذه الحيوية الفسادية غير الطبيعية المتناقضة مع طاقات الانسان الطبيعية ومع كل القيم الاخلاقية التي تعززها الرضاعة الطبيعية، انما يكمن في الرضاعة الحميرية، فهل تربى الفاسدون من حكام  ورؤساء ومسؤولين وبرلمانيين وسياسيين في مختلف الدول المعنية ، شرقية وغربية على حليب الحمير وبما مكنهم من ممارسة فسادهم الكبير بشكل منقطع النظير؟!
اخيرا، حمدا لله لان بلادنا ما تزال نظيفة ونموذجية ، خالية من الفساد والاختلاسات واللصوصية، لان حليب الحمير وبفضل حصانتنا الوطنية فشل في اختراق حدودنا الدولية!!.    

منشور في العدد 78  

تعليقات