الفلسـفة


"خرج الزارع ليزرع زرعه، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فانداس واكلته طيور السماء،وسقط آخر على الصخر.. وسقط آخر في وسط الشوك ..
وسقط آخر في الارض الصالحة فلما نبت صنع ثمراً مئة ضعف "
لوقا : اصحاح 8

 الفلسـفة


كان اول كتاب اعطته اياه اُمّه- بعد كتبه المدرسية- هو "العهد الجديد" وطلبت اليه ان يقرأه. يومها كان في الصف الرابع الابتدائي، فشرع في قراءته وراح يصعد قمماً وينزل ودياناً ويعبر سهولاً ويجانب بحيرات وسفناً وشباك صيد، وحقول اعناب وتين لم يستطع ان يتوقف عند احدها ويُشبع تأملاته بشكل كامل.
لكن استهوته اكثر تلك القصة "الامثولة" ، والتي مازال يرددها ذلك المطران الجليل، في القداس الكبير في كنيسة الشهيدة مسكنتة المعطرة ببخور "البْسمة"، التي يتعطر بشذاها الدهر. وفي الحقيقة ان الكنيسة كانت توفر له دفئاً بسبب ازدحام المؤمنين، لا توفره ملابسه القليلة في تلك الشتاءات الباردة.
 – شلاما عمخون –  بيوا انكاليون قديشا دماران ايشوع امشيحا- كاروزوثا د" لوقا" .
كان يطير فرحاً لسماعه الانجيل "بشارة لوقا" مع ان القصة وردت في متي ومرقس ايضاً. في لوقا كان الحاصل مائة ضعف.
خرج الزارع ليزرع ، يقفز من فوره بافكاره الى مزرعة والده وأعمامه التي تبعد مسافة ساعة من الزمن مشياً على الاقدام من المدينة. وتتعلق عيناه بيد الوالد وهو يرفع غرفاته ويبذرها في الهواء، فتسقط على الحافة وعلى الصخر وبين الاشواك وفي الارض الجيدة .كان يتابع عملية الزرع هذه من البداية الى النهاية، فهو يتبع والده واعمامه الفلاحين ايام الحرث، ويراهم كيف كانوا يدورون بمحاريثهم حول تلك الصخرة الكبيرة في وسط المزرعة ليتحاشوا الاصطدام بها. ولم يتبادر الى اذهانهم يوماً مسألة رفعها وابعادها عن المكان.
وبعد ان ينمو البذار يشاهد كيف ان تلك السنابل التي نمت على حافة الطريق تطوقها الاشواك الخانقة وهي بعد خضراء غضة . وعندما يأتي الحصاد ويتركها الحصادون مطوقة باشواكها وتبقى شاهداً على الخسران والشقاء الابدي .
الا انه كان يرى منطقياً جداً ان تقع بعض الحبات على الصخر فتأتي طيور السماء وتلتقطها، حتى انه كان يحمل بيده حفنات الحَب وينثرها على تلك الصخرة، ويراقب اصدقاءه الطيور والعصافير وهم يحطون لالتقاط تلك الحبات..
كل ما سمعه في الكنيسة كان جميلاً وعذباً، وكل ما رآه في المزرعة لا يمكن ان يمحوه الزمان، الاّ ان مسألة شغلت باله كثيراً . لقد رأى امه تأخذ الحبوب الذهبية وتعبئها في كيس ثم يأتي الطحان ليأخذها الى المطحنة، حيث تسحق وتدق وتنعم فتصبح دقيقاً زال لونه الذهبي وتحول الى سمار يقارب السواد احياناً لكثرة ما دار عليه حجر الرحى.
هذه اذاً هي نهاية البذار الجيدة ، اما كان من الاحسن لو خنقتها الاشواك لكانت الان تداعب الريح سفاها، او اكلتها طيور السماء بمناقيرها الجميلة النظيفة؟
لسنين طوال ظلت هذه الاسئلة وغيرها تؤرقه ولا يجد لها جوابا، حتى التقى ذلك الفيلسوف الناري الذي لا يهدأ والذي يسأل ويجيب عن اسئلته بنفسه، يقول جبران خليل جبران: ان البذار الجيدة يا ولدي هي أنّات المظلومين وصرخات المعذبين ودماء الشهداء، تلك هي العجينة المباركة تدخل التنور لتخرج خبزاً رافخاً طيباً يقدم على مائدة الرب المقدسة.

ابو يوسف 

تعليقات