
ومضـة
في القرن التاسع عشر، كانت مدينة فينّا عاصمةً
لإمبراطوريةٍ تضم العديد من الأقوام واللغات. كما كانت أيضاً مركزاً مشهوراً
للموسيقى، الأدب والفن. أما العلم، فكانت فينّا المحافظة تنظر إليه بعين الريبة
والشك. بالأخص علم الحياة. إلا أنه من النمسا انبثقت بذرة لثورة علمية جديدة، في
علم الحياة بالذات!. إذ بزغ نجم في سماء فينّا، هو الراهب غريغـور منـدل، ذو
التحصيل الجامعي المتواضع، مؤسس علم الوراثة الحديث ومنه علوم الحياة الأخرى.
ظهر مندل في أجواء تاريخية متميزة، إذ كان
الصراع بين الحكم الاستبدادي، والدعوة إلى حرية الفكر، على أشده. حيث في سنة 1848،
قام الطلبة بمظاهرة في وسط ساحة جامعة فينّا، وحصلت مواجهة مع رجال الدرك، فاهتزت
لها الإمبراطورية. على أثر ذلك تخلى الإمبراطور عن عرشه.
ولد يوهان (اسمه الحقيقي) في عائلة فلاحيه فقيرة سنة 1822. انخرط في سلك
الرهبنة، آملاً أن تسنح له فرصة ينال فيها قسطاً من التعليم. ولكنه ظلّ ابن الفلاح
طوال حياته. "غريغور" هو الاسم الذي أُعطي له في الرهبنة. أرسله رئيسه
إلى جامعة فينّا، لينال شهادة تؤهله لمهنة التعليم في الدير. كتب عنه معلمه، بأنه
كان يفتقر إلى بصيرة نافذة، ولم يكن له الذهن اللازم للتعلم!.
عاد مندل إلى ديره في مدينة برنو
(جيكوسلوفاكيا بعدئذٍ) في سنة 1853. وكان عليه أن يختار إما البقاء في الدير كمعلم
فاشل؛ أو العودة إلى يوهان القديم والعمل كفلاح. فبسبب ولعه الشديد بالنباتات،
وتأثره بواحـد من أشهر أساتذة علوم الحياة في جامعة فينّا، الذي اقتبس منه نظرته
العلمية في موضوع علم الوراثة، قرر مندل أن يكرس وقته لإجراء تجارب في علم الحياة،
في مزرعة الدير. قرار جريء اتخذه مندل في حينه بصمت. لأن السلطات الكنسية المحلية
آنذاك، كانت تحرّم إجراء بحوث في علم الحياة. باشر مندل بتجاربه في سنة 1856،
والتي استمرت ثمان سنوات. كان قد اختار لذلك نبتة البزاليا، حدد فيها سبع صفات
للدراسة، والتي عليها استند في وضع قوانينه. فصاغ مفهومي الصفة المتغلبة والصفة
المتنحية، وبيّن كيف أنه عند ضرب سلالتين مختلفتين، في الجيل الثاني، تلتقي صفتان
متنحيتان في كل رابع فرد هجين، وتصبح متغلبة. نشر مندل نتائج تجاربه في مجلة
التاريخ الطبيعي في مدينة برنو سنة 1866، وهي مجلة محلية، لكن طواها النسيان. لم
يلتفت أحد لعمله، ولا حاول زملاؤه أن يفهموه. أرسل بعض النسخ إلى الخارج، لعله يجد
من يعطيها الاهتمام المطلوب، لكن دون جدوى.
بعد سنتين، حدث أمر غير متوقع. اُُختير مندل رئيساً للدير!!!. وبقي هناك
لآخر يوم من حياته، يؤدي واجباته بمنتهى الحرص. بيد أنه نوّه مرة لأحد زملائه، كم
كان يرغب في مواصلة اختباراته، وتمنى لو يجريها على الحيوانات أيضاً. الشيء الوحيد
الذي تسنى له تحقيقه في هذا المجال، كان تزويج ضربين من النحل، فأنتج ضرباً
هجيناً، يدر عسلاً ممتازاً. إلا أنها ولسوء الحظ، لسعت بعض الرهبان في الدير،
فأجبروه على التخلص منها. لم يكن مندل يمتلك مؤهلات روحية قيادية عالية. بل يُذكر عنه
أنه كان يسعى دوماً للهروب من دفع الضرائب للإمبراطور ورجاله!.
هناك نقطتان مهمتان تجدر الإشارة إليهما: أولاً،
اختياره سبع صفات بالتحديد ليس محض صدفة، بل هو دليل رؤية واضحة ودقة الملاحظة. إذ
ليس بالإمكان إيجاد أكثر من سبع صفات في نبتة البزاليا، دون أن يحصل هناك تداخل
فيما بينها. لأن للبزاليا سبعة أزواج من الكروموسومات فقط. غير أن هذه الحقيقة
أُكتُشفت في علم الوراثة الحديث بعد مرور مائة عام تقريباً!. ثانياً، من
أين استوحى مندل الفكرة، بأنه عند تزويج ضربين مختلفين لن يؤول إلى ضرب هجين وسيط،
كما كان يُعتقد يومئذٍ !. والجواب، أن مندل ربما استوحى تلك الملاحظة من أمر بسيط
وجلي، وإن لا ينتبه له إلا من كان مثل الولد الصغير،أو والحالة هذه، الراهب مندل!:
البشر يتزاوجون منذ أكثر من مليون سنة، ولم تتحول البشرية إلى جيل هجين وسيط!. ما
زال هناك ذكور وإناث. فعليه إذن يوجد هناك أمور غيرها تتدخل في العملية الوراثيـة.
لم يرُق للرهبان ما كان يعمله مندل، فطلب منه مطرانه أن يتوقف عن إجراء تلك
التجارب. كما لم يسرّهم إعجابه الشديد بنظرية دارون وأعماله. أما زملاؤه، الثوار
الفارين، والذين كانوا يجدون في ديره ملاذاً آمناً، أحبوه حباً عظيماً. وعندما
توفي في سنة 1884، شيعه جمع غفير من الناس، وعزف الأرغن في جنازته واحدٌ من أشهر
الموسيقيين التشيك. بعد رحيل مندل، تم حرق أوراقه في الدير كلها، وظلت تلك التجارب
العلمية الأصيلة، منسية لمدة ثلاثين سنة تقريباً. لكن بفضل جهود فردية لبعض
العلماء، أعيدت مرة أخرى إلى الحياة، في بداية القرن العشرين. وبهذا يكون غريغور
مندل، قد وضع أساس علم الوراثة الحديث، بشقيه التجريبي، والنظري. كما ومهّد، في
الوقت نفسه، للإفاضة في فهم نظرية دارون للتطور.
سعيد لوقا(تلخيص وترجمة)
تعليقات
إرسال تعليق