ثقافة المقهى واثرها في مجتمعنا
نوري بطرس
انتشرت ثقافة المقهى في مختلف
انحاء العراق منذ فترة طويلة عبر انتشار المقاهي الادبية كمقهى الزهاوي والبرلمان
وحسن عجمي والشابندر وغيرها في بغداد، مقهى الادباء في السليمانية وكركوك، ومقهى
مجكو في اربيل، اما بقية المناطق فتكاد تخلو منها. وقد اطلقت عليها هذه التسمية
المتفق عليها بين المثقفين والادباء بلا شروط مسبقة ولم تخضع لاشاعة قديمة او
حديثة، بل الى حقيقة يومية ملموسة ترسخت عبر معاناة اجيال وانقضاء حقب في اوقات مضت
بينما اضمحلت في اوقات اخرى، وسرعان ما كانت تعود الى الظهور كحقيقة لامفر منها،
فهي تستقبل باستمرار وجوها جديدة وتودع وجوهاً اخرى لاسباب عدة، كل هذا اعطى لادارة
المقهى زخماً معنوياً احياناً يستمر لعقد من الزمان او اكثر في مغازلة تلك التسمية
وابرازها الى الوجود، واعتبارها واجهة اجتماعية مزدهرة ومنيرة ومشرقة على عكس
مقاهي القمار والصفقات التجارية التي تتم عبر دخان النركيلات. كما ان المثقفين
والادباء هم الاكثر تماساًَ مع لغة المقهى ولغة المجتمع، وان كبرياء المقهى من
كبرياء روادها وزمانها هو زمانهم ايضاً. ان ثقافة المقهى هي بحد ذاتها تمرد على
السلطة والمنصة والقاعة المغلقة والمكان الآمن للكاتب والاديب والخطوة الاقرب الى
نبض الشارع وهموم الناس، ولابد للمثقف بعد فصول المحنة والتغييب والتهميش من نقل
ممارسته الثقافية وفعله الابداعي من فضاءاتها التقليدية في المنصة والقاعة الى فضاء
المقهى الذي يستمد شرعيته من ذاكرة التاريخ، حيث كانت المقهى ولازالت الحاضنة
الابداعية والمنطلق الاول لكبار المبدعين في شتى موضوعات الثقافة ورموزها في الفكر
والادب، وفي نفس الوقت فقد شكلت المقاهي الادبية طوال العهدين الملكي والجمهوري
عامل قلق وارباك للسلطات، والاعتى من ذلك في عصر الدكتاتورية البعثية فكانت مأوى
لرجال الامن والمخبرين الذين يترصدون كلمات الادباء وافكارهم، حتى وصل الامر ان
كلف احد رجال الامن بادارة احد المقاهي في بغداد الا وهو مقهى البرلمان في شارع
الرشيد ، وهكذا بات فخاً للايقاع بالمثقفين والكتاب والاتجاه بهم الى مصائر مجهولة.
والمقاهي الادبية كمؤسسة ثقافية تجمع هؤلاء المهتمين بشتى مجالات الادب والفن، وبات
حضور المثقفين لهذه المقاهي ومشاركتهم في النقاشات التي تهم شؤون الحياة الثقافية
والسياسية طقساً اساسياً من طقوس حياتهم، بل يمكن القول ان هذه المقاهي احتضنت
اعلام الفكر والثقافة في معظم مدن العراق. وقد ولدت منها اعمال ومشاريع ثقافية
وفنية ساهمت في انتاج وبروز مواهب شكلت حضوراً مؤثراً في المشهد الثقافي، ورغم
ماتميزت به هذه المقاهي من فقر في عمرانها الا انها جمعت المثقفين من شتى
الاتجاهات من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، وظلت لغاية اليوم تفوح منها رائحة الفن
والادب والثقافة اكثر من رائحة القهوة والشاي واللبن والدومينو.
رغم ان عنكاوا لم تشهد طوال
تاريخها بروز ظاهرة المقهى الادبي كما هو الحال في مناطق العراق الاخرى، فان
المقهى الشعبي اخذ مكانه وبدأ يستقطب الرواد من مختلف شرائح المجتمع، وتمكن من
اختراق الحاجز الذي يفصل الثقافة عن الناس، وتمكن فضاء المقهى في عنكاوا من تعميم
الممارسة الثقافية بين قطاعات واسعة من المجتمع من البسطاء والحرفيين والعمال
والكسبة، عن طريق تبادل الحوارات وابتكار صيغ شعبية للثقافة حيث اخذت هذه
المسؤولية التاريخية تقع على عاتق المثقف في النهوض بالواقع ورؤى المستقبل، حيث
اصبح المقهى الشعبي في عنكاوا هو الفضاء المرشح للاقتراب من المواطن البسيط
واقحامه في الفعالية الثقافية باعتبارها فعلاً مشاركاً ومؤثراً في مسارات حياته،
لا باعتبار الثقافة مصطلحات جوفاء تزيد من نفور المواطن من عالم المثقفين وتبعده
عن عالم الابداع الجميل. ولقد وفرت هذه المقاهي في عنكاوا فرصة اللقاء بالاخرين
واقامة علاقات ثقافية واجتماعية معهم، من حيث توفر الفضاءات الاكثر انفتاحاً
واعتبارها الملاذ الآمن الأكثر شعبية بين فئات المجتمع. وتساهم باستمرار في متابعة
تطورات المجتمع العنكاوي بعد ان توسعت المدينة واستقطبت الكثير من ناسها من خارج
حدودها، واصبحت مركز جذب من الحواضر المسيحية الاخرى بعد حملات التهجير القسري من
بغداد والموصل والبصرة الى المناطق الاكثر امناً واستقراراً.
لقد غدت المقاهي الشعبية في
عنكاوا المتنفس الاكثر رواجاً في استقبال روادها اكثر من المؤسسات الثقافية
والنوادي التي توفر لزوارها ما يرونه مناسباً لاذواقهم ومشاربهم، رغم عزوف بعض
الادباء والكتاب عن الجلوس فيها. ويشهد المقهى الشعبي حوارات ساخنة حول مختلف
قضايا الساعة السياسية والاجتماعية والعمرانية لا بل الفلاحية والزراعية ايضاً،
ومواضيع شتى تهم المواطن والمجتمع والدولة، واصبحت اكثر انفتاحاً من حيث النقاشات
والجدالات والحوارات بعد سقوط الدكتاتور، وتسهم الى حد بعيد في رصد حركة الشارع
والمجتمع ومشاكل وهموم المواطن واخر مستجدات الوضع الراهن.
احياناً تجد كاتباً او اديباً قد
انشغل مع زميل له في حديث ساخن اكسب المكان متعة اللقاء. وهكذا كانت المقاهي. وعلى
سبيل المثال نذكر ان بعض المقاهي في المدن والعواصم الكبيرة كانت تفتخر بروادها من
الادباء الكبار، فقد كان نجيب محفوظ يجلس دائما في مقهى ريش في وسط القاهرة، وكذلك
كان سارتر يجمع حوله اعداداً من كبار الكتاب والمثقفين. فلم يعد المقهى عالماً للمسنين
والعاطلين عن العمل بحيث ان الجالسين يغوصون في احاديث عابرة يومية تتكرر في مشهد
عبثي .
وعادةً مقاهي عنكاوا تُلصق على
واجهاتها الاعلانات التي تشير الى مواعيد عرض مسرحية او القاء محاضرة او اقامة
مهرجان شعري او ادبي او ثقافي، او اعلانات اخرى رسمية من قبل موظفي الدولة
والدوائر الاخرى كالبلدية والكهرباء والبنوك، او ملصقات تجارية من مؤسسات اخرى.
واخيراً اتمنى ان يكون زجاج المقهى الشفاف هو النافذة التي يتطلع منها المثقف الى
هموم شعبه عن قرب، ثم الرغبة في المساهمة بدور ثقافي مطلوب يقوم به هو وليس غيره.
واقترح تأسيس مقهىً ادبياً في عنكاوا التي اصبحت مدينة الجمال والطبيعة والحركة
المستمرة، لان جغرافية المقهى تلعب دوراً هاماً في تطور حركة المجتمع وتحولاتها،
وهي همزة الوصل بين المناضلين والادباء داخل المدينة وخارجها. رغم هذا فان عنكاوا
لاتحمل شوارعها اسماء كتاب او شعراء او فنانين مبدعين من القدامى او المعاصرين
اسوة بباقي مدن العراق الاخرى.
تعليقات
إرسال تعليق