فن المجانين


فن المجانين


قال احد النقاد التشكيليين الالمان واصفا اللوحات التي شاهدها في معرض في هايدلبرك بالمانيا عام 1980 بانها "ليست صورا وانما آلاماً". فقد رسم احدهم صورته الشخصية بالاقلام الملونة كعجوز طفولي واطلق على الرسم اسم "الحالة 431" والى جانبه شخص يثأثىء قائلاً : "اريد ان اذهب الى بيتي، اريد ان اذهب الى فاسر بورك" اما الآخر فقد رسم فقط المنظر الذي يشاهده من شباك غرفته في المستشفى مئة وخمساً وعشرين مرة معيداً فيها رسم ذات البيوت وذات المنظر في رؤية بصرية لا حدود لها من التكرار.
هذه بضعة امثلة من مجموع ستة الاف رسم تعود جميعها الى برنسهورن الذي جمعها وحافظ عليها والتي تعرض لاول مرة اعمال "الشيزوفرينيين " من الاعوم 1890 وحتى 1920 . قام برسم هذه اللوحات مرضى لم يمارسوا الرسم من قبل ولم يجروا التمارين او يتطوروا وفق منهج او اسلوب معين، بل رسمت بشكل عفوي انفجاري ومن شعور حركة داخلية عنيفة وحاجة ضرورية اثناء اقامتهم في مستشفى الامراض العقلية في هايدلبرك. كانوا يرسمون كل ما يخطر على بالهم مستخدمين اوراق التواليت، ورق التغليف، الصحف ، التقاويم او قائمة طعام المستشفى.
اما الشخص الشاهد على هذه الرسومات المذهلة والتي جمعها ونظمها وفق التسلسل الزمني لها وعلق عليها لاول مرة، فقد كان هانس برنسهورن الحائز على دكتوراه في تاريخ الفن.
ففي عام 1919 جاء الطبيب المساعد ذو الاثنين والثلاثين عاماً الى مستشفى الامراض العقلية في هايدلبرك. وهناك وجدت خلال عامين فقط هذه المجاميع الكبيرة من الرسوم التي سميت بـ " رسوم المرضى العقليين".
والكتاب الذي صدر عام 1922 تحت نفس هذا العنوان اكسب صاحبه شهرة واسعة في الحال. لكن سيرة حياة برنسهورن كانت اقرب الى طبيب متخصص منها الى باحث فني. فقد عمل لفترة ليست بالقصيرة كطبيب نفسي في فرانكفورت، قام برحلات علمية الى اميركا ودرس تاثير المخدرات في مكسيكو، وكتب الكثير، ومن كتاباته" رسوم السجناء" . وما تبقى الان هو ما جمعه برنسهورن، فهل غيرت كتاباته حينها الظروف الحقيقية للمرضى؟ يمكن القول انها الهمت في مقدمتهم السرياليين: ماكس ارنست وآخرين، فزارهم الفريد كوبين عام 1922 في هايدلبرك . اما باول كليي فاكتشف " اصل بدايات الفن" في اعمال الشيزيين تماما كما " الاطفال البسطاء" : "كل هذا يجب ان يؤخذ مأخذ الجد واكثر من ذلك ينبغي ان ترعى جميع اعمال هؤلاء المعزولين".
وليس الطليعيون فقط استطاعوا ان يثمنوا اعمال " رسوم المرضى العقليين" بل حتى الاشتراكيون القوميون، وفي معرض "الفن المنبوذ" الذي اقامه النازي عام 1937 للرسامين المعادين للفاشية، اخذ النازيون مقتطفات من نماذج رسوم "المرضى العقليين" والصقوها الى جانب اعمال الرسامين التعبيريين الالمان مثل كيرتشنر وباول كليي، فشوهوا معانيها وافتروا عليها افظع افتراء وتشويه معادٍ. وبعد فترة قصيرة التقى في معسكرات الاعتقال النازية "المرضى العقليين" و جماعة " الفن المنبوذ" .
وحينما وصف برنسهورن فنتازيا الشيزيين " كشكل اصلي لعملية التشكيل" وفي ذات الوقت "كسقوط للشعور العالمي التقليدي " فقد كان يعلم جيدا ان وضع المعادلتين جنبا الى جنب امر لايخلو من خطورة . ولم يستطع تجنب النتائج السلبية حتى في تحذيراته المبكرة. " واخيرا : فان هذا الرسام يرسم مثل اي مريض عقلي، اذن فهو مريض العقل وليس هناك دليل على الاطلاق يجعله اعقل من الاخرين: بششتاين، هيكل والآخرون يصنعون اشكالا من الخشب مثل زنوج الكاميرون ، اذن فهم زنوج كاميرونيون" .
ان اسئلة برنسهورن: ماهو "الطبيعي"؟ وماهو "البشري" ؟ ظلت كالسابق اسئلة معدية. ويعتبر ادولف فولفلي الذي مات عام 1930 في احدى المصحات بالمانيا، زعيم الفنانين الشيزيين والذي اقيم له معرض بعنوان "وثائق" عام 1972 ، حيث برزت الشيزوفرينيا في اعماله كاختصاص فني.
وبعد فولفي يقوم اتحاد الفنانين بعرض مجموعات برنسهورن للرسوم "المجنونة" في اطارات من الكارتون والزجاج. وهي اعمال فنية جديدة لما يسمى بالفن الساذج او الفطري. وامام واجهة المعرض تنتصب لوحة برنسهورن حول " استقلالية عالم الرسم" وهي بمثابة التحليل للزمن الفكري وانعكاس تاريخي لبؤس الواقع الحالي، واقع الحالة السيكولوجية الحاضرة (العزلة، وتناول الحبوب المخدرة..) .

مبدع ماهر حربي


تعليقات