باقي الحساب




في عام 1995، أفخر انواع الرخام والمرمر والزجاج والسجاد والثريات كانت تستورد من الخارج بملايين الدولارات لبناء وتزيين القصور الرئاسية والمساجد في بغداد وتكريت، و راتب الموظف الشهري لايعادل سعر حذاء رجالي من سوق الهرج، بينما لا يسد راتب المتقاعد اجور النقل ذهاباً واياباً من البيت الى المصرف، عندما دخل المعلم (س،ع) مطعماً شعبياً لبيع الكبة، مصحوباً بأربعٍ وستين سنة ونظارتين طبيتين سميكتين وشيء من وهن الجسم وضعف الساقين، تناول غدائه ثم توجه بخطى متثاقلة و وقف أمام صاحب المطعم ليدفع ثمن الوجبة، كان صاحب المطعم ذلك الشاب المعافى، قد ترك كرسيه و وقف بين يدي زبونه وهو يقول له بأدب كبير وحياء يتلألأ في عينيه: "الغدة واصل على حسابي.. يا أهلاً وسهلاً بأستاذي العزيز.. انت شرَّفتني وشرّفت المطعم"، الموقف المباغت استفز متاعب عمره واربك بدلته التي تهرأت بطانتها، وقد ادرك في الحال بان الشاب المعافى أمامه لابد ان يكون واحداً من تلامذته، حيث سبق له ان تعرض الى مثل هذه المواقف النبيلة غير مرة في الباص والشارع والمقهى ودوائر الدولة، انهم اجيال من تلامذته على مدى 45 سنة أمضاها في سلك التعليم من القرية الى المدينة، وقبل ان يصحو من وقع المفاجأة، قام الشاب بتقديم نفسه" أنا مخلص.. مخلص عبد الكريم من تلاميذك الذين درستهم عام 1971، هل تتذكرني؟ كنت أشطر طالب في الصف"، وفيما هز المعلم رأسه معتذراً عن عدم قدرته على التذكر، كان الشاب قد سحبه من يده برفق و أجلسه على كرسي الى جانبه وطلب له قدحاً من الشاي، وراحا يستذكران أيام المدرسة والمعلمين والاستاذ فلان والحادثة الفلانية.. وتأوها مرة وضحكا مرة، وحين همّ الرجل بالانصراف، قال له تلميذه الشاب:  "استاذي العزيز.. أنا لا انسى حين كنت أقصدك الى البيت في وقت راحتك لاسألك عن معنى هذه الكلمة أو حل هذا التمرين، وكنت لاتتضايق ولا تتأخر عن معاونتي، والله أفضالك كثيرة يا أستاذ عليَّ وعلى الاخرين وانا اعرف ما آلت اليه الظروف الان، ولهذا ومن باب الاعتراف بالجميل العظيم، و رد بعض الدَّيْن الذي في عنقي، اتوسل إليك وأرجو رجاء الابن لابيه قبول هذا الكيس، وفيه انواع من الكبة التي نعملها بايدينا"، ولم يستطع المعلم الاعتذار، فقد اقسم التلميذ قسماً غليظاً، ثم اطلق يميناً آخر اشد قوة وتأكيداً على أن يأتي كل شهر ليأخذ حصته من الكبة، وقطع عليه اي كلام وهو ينحني فوق رأسه يُقبِّلهُ و(يترجاه) ان لايتأخر في الحضور، وانه كان يتمنى لو يمتلك الوقت لايصال الكيس الى بيته فذلك شرف عظيم له، غادر المعلم وهو في غاية التأثر وعيناه تشرقان بالدمع لان تعبه لم يذهب سدى وان الدنيا مازالت بخير، ثم راح بسبب يمين تلميذه أو بسبب القصور الرئاسية يتردد شهريا على المطعم ليأخذ في كل مرة كيساً أكبر من صاحبه، وفي واحدة من تلك الزيارات وبعد ان تسلّم حصته الشهرية، سأل تلميذه عن سعر الكباية الواحدة، وأثار السؤال دهشة الشاب إلا إنه لم يستطع إلا الإجابة: "الواحدة يا أستاذ بألف دينار"، و راح يراقب معلمه وهو يمد يدهُ في الكيس ويخرج اثنتين منها ويقدمها الى تلميذه قائلاً: (هاتان إذا بالفي دينار، إعطني مكانهما علبة معجون، ولما كان سعر العلبة 1250 ديناراً أرجو ان تعيد لي فارق السعر!!).
ابتسم الشاب وقال له:" احتفظ بالكبة في الكيس وتفضل هذه علبة معجون"، إلا ان المعلم رد عليه "شكراً إبني مخلص، هذا فضل كبير منك، ولكن لا تنسى بأن لي في ذمتك 750 ديناراً"، وغادر المعلم بخطى ثابتة.

المصدر: مجلة الصوت الآخر2006
اعداد
حبيب عسكر

تعليقات