مايكل انجلو .. رخام زاخر بالحياة



في كاتدرائية القديس بطرس بروما كنز رائع انجزه الفنان الايطالي مايكل انجلو في شبابه وهو تمثال (بييتا) أو سيدة الرحمة، وقد صدق فنان عصر النهضة الكبير حين قال، ان احداً لن ينتج عملا نحتيا كالذي نفذه على كتلة الرخام الابيض يفوق عرضها طولها، ونحت منها في شكل هرمي تمثالا بديعا في اندماجه وصرحيته التي تشي بحزن السيدة العذراء باشارة من راحة يدها الممدودة.
لقد اقدم انجلو في غمار متابعته لما اسماه "صورة القلب" على اسقاط الواقع التقليدي لتحل محله في (سيدة الرحمة) مجموعة من الاحجيات الغريبة المهيمنة بحيث يكتمل بناؤها في اطار واقع فائق. ونحن اذ نرى المسيح ميتاً بين ذراعيها الا انه لايزال حيّاً تفيض عروقه بنبض الحياة، فيما يتموج بدنه منثنياً، والعذراء التي يبرزها الفنانون عادة كامرأة هدها الحزن، تبدو هنا اصغر كثيراً من ابنها تجسيدا لـ"النقاء الدائم"، وبينما السيد المسيح يظهر بحجمه الطبيعي حفاظا على التزام الفنان بتقديم الاشخاص بحجم انسان وافر البدن متناسق النسب بين الاعضاء، فان العذراء تبدو بحجم اكبر من الحجم الطبيعي للمرأة، فلو وقفت في موضعها لبلغ طولها سبعة اقدام ومع ذلك فان حجم رأسها يعادل حجم رأس المسيح. ورغم ان النسب خارجة عن المألوف الا انها لاتسبب للناظر اي ازعاج اطلاقا.
 وافق مايك انجلو على ان ينحت "اجمل عمل رخامي يمكن لروما ان تعرضه اليوم" وقد حرص على ان يكون تمثال (سيدة الرحمة) كذلك على وجه الدقة في كل التفاصيل، ولم يقدر لاي عمل نحتي اخر ان يخرج من بين يديه بقدر اكبر من الاكتمال، فسطح التمثال يتلألأ بعمليات التنعيم العديدة والرقيقة التي منحت الرخام البارد دفء اللحم الحي. اما الاردية فيتعذر تحليلها وهي تهب العمل بأسره طاقة متموجة، كما يظل كل اصبع في انفصاله ونحته الرقيق المجسم معجزة من معجزات النحت، وذلك على الرغم من حادثة التحطيم المههوسة التي تعرض لها من قبل مخبول.
بعد عامين من اكمال مايكل انجلو لتمثال "سيدة الرحمة" قام بانتاج عمل عظيم اخر هو "سيدة بروجز"، هنا سعى النحات الشاب مرة اخرى لاستخراج معان جديدة واكثر عمقاً من موضوع مألوف. لم يقم بنحت عذراء مبتسمة تنتمي الى هذا العالم برأس يعلوه غطاء مذهب على نحو ما كان شائعاً خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وانما عاد بدلا من ذلك الى نمط سابق هو نموذج مريم العارفة بالغيب على نحو ما قدمه دوناتيللو أو جاكوبو ديللا كيرشيا، بل ان في العذراء التي يقدمها صدى قوياً من تمثال دوناتيللو الذي يجسد كوديت وهي تعرض رأس هولوفيرنيز التي قامت بحزه. ومايكل انجلو يضع في مفارقة للتقاليد المتبعة ليسوع الصغير بين ركبتي مريم وليس في حجرها، وقد استطاع بقيامه بذلك لا ان يتلاعب فحسب باللحم الناعم مقابل الطيات التفصيلية للثوبين على نحو ما فعل في "سيدة الرحمة"، وانما كذلك ان يزيد تعقيد وحيوية المجموعة ككل من حيث التركيب : العذراء بركبتها اليسرى مرفوعة الى اعلى من اليمنى والمسيح الطفل بقدمه اليمنى وقد تدلت من الفراغ كما لو كان يوشك ان يخطو من العلى الى العالم المنظور.
                                                        
مبدع ماهر حربي   

تعليقات