اسباب هجرة المسيحيين من شقلاوة الى عنكاوا






منذ مدة طويلة كنت أفكر بالكتابة عن هذا الموضوع وعن دوافع هذه الهجرة المنتظمة الى الخارج وخاصة الى عنكاوا.

اود ان اوضح اولاً اسباب هذه الهجرة كوني احد أبناء شقلاوة الجميلة التي مازلت اسكنها مع عائلتي. هذه البلدة التي عانى أبناؤها الأمرَّين في زمن الحكومات السابقة المستبدة.

وهنا يطرح السؤال نفسه.. هل كان هنالك أسباب موجبة للهجرة؟

أنا وامثالي نقول: نعم، هنالك أسباب كثيرة منها: أمنية، سياسية، أقتصادية معيشية، إضافة الى الأضطهاد وعدم استقلالية الفرد، و، و، و،...الخ.

كل هذه الاسباب وغيرها ادت الى ذلك، لذا اود اطلاع القراء الاعزاء على بعض هذه الحقائق التي يجهلها معظم الناس. قبل ان ادخل في صلب الموضوع، اليكم بعض المعلومات عن شقلاوة:-

قصبة (شقلاوة) تبعد عن محافظة اربيل (50) كم شمالاً، ويرجع تأريخها حسب المصادر الى القرن الرابع الميلادي، وكنيستها القديمة الأثرية الباقية لحد الآن خير دليل على ذلك. كان يقطنها المسيحيون واليهود فقط، وبعد مجيء الاسلام سيطر المسلمون على معظم مناطق كوردستان وبضمنها قصبة شقلاوة، وبمرور الزمن ازداد عدد الإخوة المسلمين من جراء ظروف سياسية ادت في حينها الى نزوح اهالي القرى المجاورة لشقلاوة الى الإقامة فيها رغم صُغر رقعة ارضها، ولكن اصبحت المعادلة غير متوازنة في الفترة الأخيرة. فقد قلَّ عدد المواطنين الأصليين من مسلمي شقلاوة الى (1985) عائلة بعد ان كان (2420) عائلة، أما المسيحيون الأصليون في شقلاوة فقد أصبحوا (340) عائلة من مجموع (730) عائلة، ولايزال عددهم في تناقص مستمر بسبب الهجرة المتواصلة التي من اهم مسبباتها مايلي:-

1.   الظروف السياسية وانعدام الأمن والاستقرار أبان الحكومات السابقة المستبدة التي زرعت الخراب والدمار والهلع في كوردستان، تصوروا ان البريء كان يخاف اكثر من المتهم أو المشتبه به لأنعدام الثقة والأمن وغياب القانون في المنطقة، وأختلط الحابل بالنابل وأحترق اليابس والأخضر معاً. لذلك قال آباؤنا عن شقلاوة: (ماييَ قةريليَ وخاييَ مةريليَ) يعني ماؤها بارد والحياة فيها مُرّة. اصبح نصيبنا من المآسي والويلات كبير بسبب الموقع الجغرافي للحي المسيحي في الجهة الشرقية كخط أمامي للجبهة، والقرى الواقعة في هذه الجهة معظمها محظورة ادارياً وخارج سيطرة الحكومة بسبب وجود (البيشمركة) فيها، في الليل كانت البلدة بيد الثوار الأكراد البيشمركة وبالنهار بيد الحكومة، فكان كلاهما يضايقاننا بشتى الطرق والاساليب، ونحن لا حول لنا ولا قوة نقاسي الأمرّين وننتظر مصيرنا المحتوم.

كان في الحي المسيحي ثلاثة معابر لمقاتلي قوات البيشمركة، فكانوا عبر هذه المعابر يترددون الى ذويهم لنيل قسط من الراحة أو للأكل والشرب، أو لتنفيذ مهامٍ كُلِّفوا بها. وهذه الطرق هي:-

1.    طريق (ثاشتةلان) خلف جبل سورك المار بمحلة (زيوةر) و (دؤلان).

2.   طريق (شيوة ساريَ) و (مار يوحنان) وسط البساتين.

3.   طريق (بيترمه) بمحاذاة جبل سفين الواقع في جنوب الحي المسيحي.

ايها القراء الكرام، اليكم إحدى هذه الحالات المأساوية التي تعرض لها بيت العم (مرقس سوريش) سنة 1987 على غرار مئات الحالات الأخرى خلال الحرب (العراقية-الايرانية):-

في أحد أيام فصل الربيع وبعد غروب الشمس، جاءت مفرزة من مقاتلي البيشمرطة المؤلفة من (5) أشخاص مسلحين لتنفيذ مهمة ما، نزلوا عند شخص يدعى (مرقس سوريش) في محلة (زيوةر) لغرض الاستراحة والأكل، وصعدوا الى الطابق العلوي من البيت وكان فارغاً، وبعد قيام اهل البيت باعداد العشاء وتوفير وسائل الراحة للنوم، باتوا تلك الليلة عندهم حتى الصباح. ومن المفارقات انه في صباح اليوم التالي وقبل طلوع الفجر، جاءت مفرزة من الأمن والقوات المشتركة لتحري البيوت في تلك المنطقة بحثاً عن المخربين على حد قولهم، وعندما علم السيد (مرقس) بذلك خاف جداً وصعد اليهم مرتبكاً وأخبرهم بذلك، فأمسك كل واحد منهم سلاحه استعداداً للمقاومة اذا أقتضى الأمر، وقالوا لأهل الدار لا ترتبكوا والزموا الصمت وكونوا في حالة اعتيادية عسى ان لا يقع مكروه وينتهى الأمر بسلام، و اذا -لا سامح الله- استوجب الأمر المقاومة فسنقاتل الى آخر رمق، أبقوا أنتم في داخل البيت، وعندما دخلت المفرزة الى الدار وبدأ الجنود بتفتيش البيت، رحّبَ اهل الدار بهم بدون ارتباك، ثم قدموا لهم كعكاً مع الشاي، فشكروهم وقالوا: هل يوجد أحد في الطابق العلوي؟ قالوا لا أحد بل هو فارغ، واذا رغبتم فتفضلوا وأصعدوا وفتشوا الطابق، قالوا ذلك بدون تردد أو خوف، فقال الجنود لا داعي لذلك، وهكذا نجا اهل الدار وضيوفهم من هذه الورطة التي كادت ان تعرّض المحلة بأسرها للإبادة. وكذلك وقعت حادثة مماثلة لبيت المرحوم (عوديش بيبا) في محلة (دولان) ونجا افراد العائلة باعجوبة. وما اكثر الحوادث المشابهة لهاتين الحادثتين.

2.  تردي الوضع الاقتصادي والحالة المعاشية وعدم وجود فرص للعمل:-

لا يوجد في شقلاوة مجال واسع للعمل، وموظفو الدوائر الحكومية ذوو الدخل المحدود لا يشكلون الا القلة من السكان، ورغم ان شقلاوة منطقة سياحية الاّ ان معظم المسيحيين محرومون من خيرات السياحة لبعدهم عن السوق الرئيسية. ولتحسين الحالة المعاشية وكسب المال اللازم لتحقيق طموحات شباب العصر الملزمين بتأمين مستقبلهم، أضطر العديد منهم للنزوح الى بلدة (عنكاوا) وخاصة بعد وصول المنظمات الاجنبية والشركات العالمية اليها وزيادة فرص العمل في جميع المجالات، إضافة الى وجود الأمن والاستقرار فيها اكثر من المناطق الأخرى.

3.  ضيق رقعة الأرض وعدم إفراز الأراضي للسكن:-

ان بساتين شقلاوة غير قابلة للإفراز بقرار من الحكومة السابقة. وبسبب عدم توزيع الأراضي للسكن، نَزح الكثيرون. وزيادة في الايضاح، ان معظم أراضي شقلاوة بساتين ومسجلة بالطابو ملك صرف أو أراضٍ أميرية مفوضة بالطابو، ولا يجوز بناء إلاّ دار واحدة للسكن على القطعة التي تكون مساحتها اكثر من (1) دونم واكثر من ذلك  مخالف للقانون. ومعظم هذه الدور بُنيت على النفقة الخاصة لاصحابها وبطرق غير رسمية ودون مساعدة حكومية كالسلف أو تمليك الدار لأصحابها، اضافة الى ذلك فأن معظم بساتين شقلاوة مفوضة بالطابو الاّ ان (1/4) مساحة الأرض مملوكة للدولة. ولقد حاول اصحاب تلك البساتين مطالبة الجهات المعنية باصدار قانون لتغيير صنفها وجعلها ملكاً صرفاً ولكن جهودهم باءت بالفشل، كما ان عدم توافق الورثة فيما بينهم  وتنازل بعضهم لبعض لتصفية القطع، ادى الى عرض هذه القطع للبيع بالمزاد العلني بواسطة (إزالة الشيوع)، وهذا مما زاد في الطين بلة.

4.  اراضي قصبة شقلاوة جبلية صخرية، فهي ليست  زراعية ولا صناعية ولا تجارية، سياحية بالاسم:-

ليست زراعية لان معظم اراضيها جبلية صخرية وغير صالحة للزراعة إلاّ القليل منها المتمثل بالبساتين التي تزرع فيها الفواكهه التي تكاد تسد حاجة أصحابها، ولا هي صناعية حيث انها خالية حتى من معمل واحد، ولا تجارية بحكم موقعها الجغرافي فهي ليست قريبة من اي من الحدود الأقليمية، كما انها ليست سياحية كما يستوجب لأنها منسية ومهملة سابقاً ولاحقاً وبحاجة ماسة لتوفير الماء لها، فهي فقط مبيت للمصطافين  و لا يوجد فيها اية منتجعات سياحية، فهي اسم بلا جسم.

5.  من الاسباب الثانوية، عدم وجود الكليات وقلة المعاهد فيها:-

بعد اجتياز الطلبة المرحلة الاعدادية يتم قبولهم في كليات ومعاهد خارج شقلاوة لذا يضطرون للتوجه الى المدن، فتنزح العائلة بأسرها لمرافقة أبنائها.

6. سبب ثانوي آخر عدم وجود أماكن ترفيه وتسلية للصغار والكبار معاً:-

لقضاء أوقات الفراغ لا يوجد إلا القليل من الكازينوهات البدائية الشعبية المكتظة بالزبائن واكثرهم يدخنون ويلعبون القمار.

7. من اسباب الهجرة ايضاً، الاقتداء بالمهاجرين الاوائل، وخير دليل على ذلك هاجرت العوائل من احدى محلات شقلاوة ولم يبق فيها إلا عائلتان فقط.

8. الانعتاق والتحرر من بعض العادات والتقاليد البائدة ومن قيود وضغوطات العائلة والمجتمع، والحياة الروتينية المملة وخاصة بالنسبة للشباب والتي تؤدي بالإنسان الى الدوران في حلقة مفرغة، فالشتاء بلياليه الطويلة الباردة يجعل البيوت شبيهة بالقبور.

9. توزيع الاراضي السكنية للمواطنين في عنكاوا وقلة توزيعها في شقلاوة بسبب صغر رقعة الأراضي الموجودة فيها.

وهنا يجب ان لا ننسى دور أهالي عنكاوا والمسؤولين والخيّرين فيها بترحيبهم بالمهجرين والقادمين اليها للأستقرار فيها، حيث اصبحت مركزاً لتجمع المسيحيين.

أعزائي القراء:- بعد توضيح أسباب الهجرة الى عنكاوا، لا ننسى ان هناك أسباباً موجبة ايضاً للبقاء في شقلاوة رغم كل المغريات، فهي اولاً أرض مقدسة وموطن الآباء والأجداد الذين عاشوا وناضلوا وتحملوا وقاوموا كل الصعوبات والمشاكل منذ القدم، فمن المؤلم جداً ان نغادرها بهذا الشكل. أجدادنا عاشوا بمحبة وإخلاص رغم فقرهم، وكانوا يحصلون على قوتهم بعرق جبينهم. ونحن ابناء واحفاد هؤلاء الابطال الغيارى علينا ان لا ننسى فضلهم، و ان نحافظ على البقية الباقية من التواجد في قصبتنا العزيزة الجميلة. ومن أصر على البقاء فيها تذكره الأجيال القادمة وتحترم موقفه المُشرّف.

(شقلاوة) جميلة بطبيعتها الخلابة، وهي مصيف ومبيت للمصطافين القادمين من مُعظم المحافظات العراقية الذين يتوجهون اليها خلال فصل الصيف، بسبب مناخها الملائم وفواكهها اللذيذة ومياهها الباردة والشافية، ومن المؤلم والمؤسف ان تكون فريسة الجفاف، كما ان شحة المياه فيها تحتاج الى معالجة سريعة بمد شبكات المياه اليها لادامة خضرتها.

وأخيراً أهيب بكل شقلاوي أصيل ان يهتف معي لا و لن نتخلى عنك ياشقلاوة الحبيبة مهما كلف الأمر فأنك مدينة الشهداء والقديسين. ولنذكر هنا المثل الكوردي القائل: (بةرد لة شويَني خؤي بةقةدرة) ويعني (ان الحجر في مكانه مقدَّر).

وأخيراً (شقلاوة) هي الموطن الأول والأخير لأبنائها اينما كانوا، ان الذين هجروها عندما يرحلون عن هذه الدنيا توارى اجسادهم في مقبرة آبائهم في تراب شقلاوة الغالي.

               

                                                          جلال جرجيس شير

العدد 41

تعليقات