شهر العسل




لا يضايقه شيء مثلما يضايقه ارتياد المطاعم والفنادق ذات المواصفات الحديثة والنجوم الكبيرة فهي تسبب له الحرج والحياء الشديدين، لانها تتعارض مع تربيته ومع بيئته في أحياء بغداد الشعبية، ولانه يجهل كيف يتصرف ويتعامل مع تلك الاماكن الفخمة، وتنقصه المعلومات (الحضارية) الكافية عن أصول (الاتيكيت) والملعقة والشوكة ومناديل القماش وابواب الزجاج الدوارة وما يجوز وما لا يجوز، ولهذا السبب كان طوال عمره يبتعد عن الحفلات والدعوات والمؤتمرات الصحفية والندوات الثقافية والحلقات الدراسية، التي تقتضي منه الحضور الى تلك القاعات الارسقراطية ومايكروفوناتها ولاقطاتها خشية تعريض نفسه الى مطبات إنه في غنى عنها، ومن هنا لم ينزعج حين وصفه احد أصدقائه (بالبدوي) الذي لا يصلح لحياة المدن.
المرة الاولى في حياته كانت لها أحكامها وضروراتها، وقد فرضتها عليه فرضاً مناسبة زواجه، حيث لم يكن بد من الذهاب الى أحد الفنادق الراقية، وقد تم ذلك تحت ضغط الاهل والاصدقاء، وكاد لفرط حرجه وتحسبه من مشكلات هذا النوع من الفنادق وفي المقدمة منها رعبه الحقيقي من المصاعد الكهربائية إذ أراد ان يلغي مشروع الزواج باكمله، ولكن وقع المحذور كما يقال ليلة وصولهم الى الفندق، رفع سماعة الهاتف الداخلي وطلب إحضار "نفرين مشوي مشكَّل" الى غرفته، وانتظر ساعة من الزمن قبل ان يطرق عامل الخدمات باب الغرفة ففتحها له ودخل العامل وهو يدفع أمامه عربة خشبية انيقة مغطاة بقطعة قماش من الحرير مطرز الحواشي، وسأله ان كان يطلب شيئاً آخر، فقال له "اريد كوبين من الشاي السنكين بعد نصف ساعة" و وضع مبلغاً من المال في يده جعله في غاية السرور والامتنان، جلسا حول العربة ورفعا الغطاء فرأيا قرابة "14" صحناً متباينة الاشكال والحجوم وهي عامرة بانواع المقبلات التي لم يسبق ان رأيا معظمها في حياتهم، كان المشهد مثيراً للشهية قبل الدهشة، ولكن الامر الوحيد الذي أثار استغرابه واستغراب عروسته، ان المشويات لا أثر لها على العربة، ولكونه الرجل الشرقي الذي عليه ان "يفكر ويتصرف" فقد فكر واجتهد وتوصل الى رأي لا يقبل النقاش، وهكذا أخبر عروسته بلهجة استاذية متعالمة، بان من عادة الفنادق الراقية تقديم المقبلات لانها عادة صحية وتفتح الشهية ثم تقدم الوجبة الرئيسة بعد ذلك، وهكذا أخذا يمارسان هذه "العادة الصحية" ويلتهمان بكثير من الاطراء والتلذذ أطباق "الزيتون والجزر المسلوق وبابا غنوج والتبولة وانواع السلطات والجاجيك والحمص بطحينة والطرشي والشوندر واوراق الخس وقطع النومي حامض" واشياء لا يعرفون ما هي وما هي موادها وكيف تصنع، حتى لم يبقَ ما يؤكل في معظم الاطباق ومع ذلك لم تصل المشويات، وبات واضحاً بان الرأي الذي توصل اليه لا قيمة له بالمرة، وهو الامر الذي أزعجه وأحرجه، فاتصل بالهاتف طالباً حضور عامل الخدمة الخاص بغرفتهم وباقصى سرعة ثم عاد إلى مكانه منفعلا وهو يلعن الفنادق الراقية وانظمتها، فيما كانت العروس منشغلة بالتهام البقية الباقية من المقبلات غير آبهة بغضبه، على جناح السرعة وصل العامل وطرق الباب فدعاه الى الدخول وراح يؤنبهُ لانه تأخر جداً في إيصال المشويات وليس من المعقول ان تتأخر الطلبات كل هذا الوقت، لم يرد العامل على تأنيبه واكتفى بابتسامة خفية بين عينيه قبل ان يقول له بلطف "عفواً استاذ" العشاء موجود في الطابق التحتاني واشار اليه باصبعه، فنظر الى المكان واكتشف بان العربة مكونة من طابقين، العلوي للمقبلات والسفلي للمشويات وانه هو الذي لم ينتبه، إذ لم يسبق ان تناول طعاماً على عربة من عدة طوابق، ولهذا أعطاه مبلغاً اضافياً جديداً ورجاه ان لا يكشف هذا السر حتى تنتهي أيام العسل.
                                                                     اعداد/ حبيب عسكر
                                                                             المصدر/ الصوت الاخر 2006

تعليقات