عاش الفلكي الإغريقي ايراتوسثينس في القرن
الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد. عمل في مدرسة الإسكندرية، المعروفة يومئذٍ
في منطقة البحر المتوسط. قام بحسابات دقيقة نوعاً ما، لتحديد محيط الأرض، في حوالي
سنة 200 ق.م. إذ يبدو أن بعض القادمين من جنوب مصر كانوا قد أخبروا عن بئر عميق في
مدينة صاين (قرب أسوان الحالية)، تضرب الشمس قعره في اليوم الأول من الصيف في الظهيرة.
أدرك ايراتوسثينس حينها بأن الشمس يجب أن تكون عمودية في صاين، وأن هذه الأخيرة لابد
أن تقع على نفس الاتجاه، بين مركز الأرض والشمس. إن التقنية التي اعتمدها
ايراتوسثينس، لا تختلف، من حيث المبدأ، عن أغلب الطرق الحديثة: فالشمس، لبعدها
الشاسع عنّا، ترسل أشعتها إلى الأرض بخطوط متوازية. أي أن جميع الذين يرون الشمس،
لو أشاروا نحوها، فسيكونون كلهم يوجهون أصابعهم متوازية، في الاتجاه ذاته. في
الحقيقة، أن فكرة كون أشعة الشمس، النجوم، أو الكواكب تَسقُط على سطح الأرض بخطوط
متوازية، كانت موجودة في أساس الملاحة الفلكية، أي تحديد الموقع في البحر.
أرسطو، قبل ذلك بأكثر من مائة عام، كان قد
علّم بأن الأرض لابد وأن تكون كروية، لأنها دائما تُلقي ظلاّ دائريا عند الخسوف.
غير أنه فيما يخص حجمها، كان قد اكتفى بتخمينه فقط. أرسطو كفيلسوف اتّبع تعاليم
أفلاطون، ولم يجرِ أية مشاهدات مباشرة؛ في حين أن ايراتوسثينس
قام بنفسه بإجراء قياسات مباشرة بحثاً عن المعرفة. وهكذا شرَع الأخير بالتساؤل:
لمّا كانت الأرض كروية، فإن أشعة الشمس لا يمكن أن تكون عمودية في نفس الوقت في
الإسكندرية في الشمال. كذلك أيضاً، وانطلاقاً من مبدأ أن الشمس عندما تكون في سَمت
الرأس، فالأجسام العمودية لا تُبسط ظلاّ. هكذا، وفي اليوم الأول من فصل الصيف،
بادر ايراتوسثينس بقياس ظِلّ بُرج في الإسكندرية، في وقت الظهيرة. وتبيّن له بأن
الشمس لم تكن عمودية تماماً، بل مائلة نحو الجنوب، بزاوية تزيد عن سبع درجات. وهذا
بالطبع يمثل واحداً من خمسين من محيط الدائرة. الفرق بين القياسين دليل على أن سطح
الأرض لا يمكن إلا أن يكون محدباً. فالأرض إذن كروية لا محالة!. هكذا يكون ايراتوسثينس
أول من وظّف هذه الحقيقة، ليتوصل من خلالها إلى استنتاجات أخرى.
لغرض حساب محيط الأرض، كان يتطلب إيجاد
المسافة بين المدينتين، الإسكندرية، وصاين. وبما أن هذا الطريق، كان ممرّاً للقوافل،
فالرحّالة أفادوا بأنه يستغرق خمسين يوماً. وبالإضافة إلى ذلك، إن ما تقطعه قوافل
الجمال في مسيرة يوم واحد، كان معلوماً ويساوي مائة ستيديوم تقريباً(وحدة إغريقية
قديمة لقياس أطوال المسافات). خمسة آلاف ستيديوم إذن هي المسافة بين المدينتين.
وهذا في الواقع ما هو إلا جزء من خمسين من محيط الأرض. إذن محيط الأرض يساوي مائتين
وخمسين ألف ستيديوم. ومن قسمة هذا المقدار على النسبة الثابتة، ينتج القطر. ومن نصف
القطر يمكن حساب حجم الكرة.
كان للستيديوم عند
الإغريق قيمتان مختلفتان: الأكبر كان يسمى ستيديوم الأولمبيادا، أما الآخر فكان يعادل
حوالي المائة والستّين متراً. فالرقم الذي يكون ايراتوسثينس قد توصل إليه في حسابه
لمحيط الأرض، هو أقل من القيمة الحقيقية (أربعـون ألف كم)، بفارق 4% فقط. وهذا أفضل
بكثير مما كان قد خمّنه أرسطو في السابق، والذي كان أقل بحوالي 40%.
المسألة لم تكن مجرد اختلاف بين فَيلسوفَين،
بل كان لها عواقبها. ففي أيام كريستوف كولمبس (1492 م)، كان المتعلمون على علم بأن
الأرض هي كروية، وليست مسطحة؛ لكنهم لم يكونوا متأكدين من حجمها. كولمبس، كغيره من
الناس، تبنّى تقديرات أرسطو. واعتقدَ بأن الأرض، من الصّغُر، بحيث يمكنه الإبحار
غرباً والوصول إلى اليابان، وجزر التوابل في الشرق. أمّا ما آلت إليه الأمور في الآخر،
أنه هو وملاّحوه كانوا محظوظين. إذ أن قارة أمريكا الشمالية كانت في الطريق!. فلو
كان الطريق كله بحراً مفتوحاً، لهلك الجميع جوعاً قبل أن يصلوا إلى اليابان بوقت
طويل...!.
سعيد لوقا
(تلخيص وترجمة)
تعليقات
إرسال تعليق