صلاح هو اسم الفتى الغامض الذي تعرفتُ عليه أثناء زيارتي
الى بغداد ذات صيف قائض تهرب فيه الناس من حر العاصمة لكنني فعلت العكس، فإن بغداد
تبدو لي في هذا الفصل أجمل واكثر عنفواناً. وجلسات أبي نؤاس لا يشبع من سمكها
المزكوف برائحة دخانه وطعم ملحهِ المميز.
جلسة نؤاسية رائعة ارتفعت فيها الكؤوس وطابت لها النفوس
وآنطلق الجميع في جوّ بهيج الاّ هو بقي صامتاً كأن الافكار تأخذه الى مكان بعيد في
أرجاء القدر اللامنتهية، سألت الذين يعرفونه عن معاناته وهل هناك ما يسيء في حياته،
فكان الجواب أنه من أطيب الشبّان معشراً ودماثة الطبع صفة اصيلة في كيانه، اما
الصمْت فطبيعة فيه ليس غير. سنوات قليلة مضت حتى التقيت الجماعة نفسها في النادي
الثقافي المسيحي –السنتر في بغداد- كان أغلبهم قد أصبح الواحد منهم اثنين. وصلاح
من ضمنهم كانوا قد أزدادوا مرحاً امام أنصافهم الثواني الاّ هو، كان يجلس صامتاً
قبالة تلك التي هي زوجته، صامتةٌ هي الأخرى لكن محاسنها تنطق بألسنة فهي بيضاء
كالقمر عذبة كالماء جذابة كزهرة يكاد جمالها يغطي على الحاضرين كلهم.
أثار فضولي هذا الكائن لا أقول الغريب لكن المتميز
بطباعهِ، أبعْد حصوله على هذا الكنز لا يتغير؟ قُلت هذا شأن الله في خلقه.
-
ما
رأيك بالزواج؟ هل هو هو أفضل أم العزوبية؟
سألته و انا اتوقع
جواباً مقتضباً من هذا الجُرم الصامت الاّ انه اندفع بعد سؤالي يشرح باسهاب:
-
بالتأكيد
ففي الزواج استقرار و دافع الى تكوين الذات بصحبة الشريك، وانا سعيد بهذا و لو انني
قد تركت أهلي فانا الان اعيش مع زوجتي وامها التي تقوم بعمل كل شيء من اجلنا، تصور
انها في هذا الصباح مسحت حذائي قبل خروجي من البيت. لقد انزعجت من طريقة كلامه
بهذا الشكل وبخاصة عن والدة زوجته، لكن مسحة الشكر والعرفان في لهجته دلتني الى
انه لا يقصد الإساءة، انما قد يكون وراء الامر سرٌّ.
في الصباح اليوم التالي
جلست الى أم صديقي الذي انزل في بيتهم بعد تناول الافطار، وهي تعرف صلاح عن كثب
مثل ولدها.
-
أماه
ما هو السر وراء صديقنا صلاح و لماذا يختلف عن الآخرين؟ أرى ان زوجته جميلة جداً.
التفتت تلك الأم الطاهرة -رحمها الله- الى علبة سكائرها وأعطتني واحدة و وضعت اخرى
بين شفتيها، فأشعلت لها لفافتها فأخذت نفساً عميقاً منها واطلقت حلقات دخان كثيرة
وبدأت حديثها.
-صلاح -يا ولدي- فتىً
طيب نحبه كلنا ولزواجه من تلك الفتاة قصة سأرويها لك بالتفصيل:
-
تكلمي
يا أمي فإنني في اشد الشوق لمعرفة ذلك ان النادي -تقول والدة صديقي- الذي كنتم فيه
بالأمس انطلقت منه قصة صلاح وأستير.
-
اسمها
استير؟ أي النجمة.. الله.. انها نجمة بحق.
-
تمهل
يا ولدي فإن تلك النجمة كادت تهوي لولا تداركتها رحمة ربك، اصبر وأسمع: فبينما كان
صلاح والاولاد -تقصد الشباب- يرتادون ذلك النادي تعرف الى تلك الفتاة واحبها
واحبته بكل صدق وإخلاص، لكن حبهما بقي صامتاً هو الآخر الى ان جاء يوم تكلم فيه
صلاح و فاتحها بحبهِ لها و رغبته في الزواج فقالت: أفاتح أمي.
في جلسة على مائدة قصيّة
في طرف النادي جلس صلاح و أستير التي راحت تروي دون توقف:
-
سأقول
لك كل شىء مهما كانت النتيجة، لقد التقيت من قبلك بفتى على الدين الآخر و انا
المسيحية الملتزمة، لكن الحب كان أقوى فتزوجنا على الرغم من ارادة أهلينا وحَمَلْتُ
منه، و لما آن أوان الولادة اقنعتني والدته بأن تكون الولادة في مستشفى في مدينة
البصرة بعيداً عن المعارف والأقاويل، فوافقت دون ان اعلم ماذا يضمر لي الآخرون.
-
رزقت
بطفلٍ بقي الى جانبي أربع ساعات ثم أخذته حماتي وخرجت من الصالة، لم أرْتَب بشيء
الا انها تأخرت في العودة، بحثت عن زوجي والد الطفل فلم أرى له أثراً، ناديت رفعت
صوتي لكن الجميع كانوا قد تبخروا، وحدي بقيت لا زوج، لا طفل و لا أحد يقف الى
جانبي فتذكرت والدتي الحنون إتصلت بها فأجابتني:
-
لا
عليك يا ابنتي اني قادمة فوراً.
وصلت والدتي وأخذتني
الى حضنها من جديد و أنا اليوم -اذا وافقت- فسأولدُ من جديد من المسيح و منك! قالت
هذا وألقت بنفسها عليه وغسلت وجهه بدموعها و راحت تقبل وجهه وصدره.
كانت العواطف جياشة حتى
أني لمحت قطرات دمع تنبثق من عيني الراوية، فتناولتُ علبة سكائرها و وضعت واحدة
بين شفتيها وأشعلتها لها، و بعد صمت نسبي راحت تكمل بقية القصة.
-
هدّأ
صلاح من روع الفتاة -تقول ام صديقي- و وعدها بانه سيفاتح اهله ثم يعطيها النتيجة.
صارح أهله -اخوته
واخواته و والدته- بموضوع الفتاة فأنتفضوا رافضين وقرروا بالإجماع مقاطعته اذا
اقدم على مثل تلك الفعلة -اي الزواج من فتاة لها ماضٍ- فما كان منه الا ان جمع
حاجياته وهيّأ حقيبته وقال:
-
لقد
اتخذت قراري، السلام معكم.
حين وصلت أم صديقي الى
هذه النقطة قالت: البيقة قد عرفتها ورأيت بأم عينيك حالة الانسجام بينهما ونظرات
الرضى التي تشع من عيونهما.
-
بقي
شيء يا أمي، فلفترة ما أسأتُ الظن بصلاح و انا أتمنى ان التقيه وأقبل رأسه وأكفر
عن خطيئتي بأني لم احبه يوماً ما.
قلت هذا وتناولت من على
رف مكتبتها نسخة الانجيل الخاص بها، وفتحته ورحت أبحث فيه عن تلك الجملة التي
شغلتني منذ الصغر في حق الأبن المارق في العودة الى حضن أبيه مع اعتراض أخيه
المستقيم في حياته المطيع لوالده فيقول الوالد: "ان اخاك هذا كان ميتاً فعاش
وكان ضالاً فوُجد".
بقيت سنوات وانا أتابع
اخبار صلاح و زوجته أستير، لقد سافرا الى أرض جديدة وأنجبا واستثمرا الوزنات
المشتركة بينهما في مكان "حيث تمشي الامم بنورها" وتصون بالعفو كرامتها.
ابو يوسف
تعليقات
إرسال تعليق