صورة بل صور متعددة لرجل اتخذ على عاتقه مهمة ان يأكل أو
بالأحرى يعيش حتى يأكل، فهو يقضم كل ما يقع عليه بصره أو تنال منه يده، فهو الأول
في فنون البناء والعمارة، والأول في قضايا البيع والشراء والإقراض والاقتراض، إذا
جلس بين أقرانه يبزّهم بهيبته الفطرية و يَبْرُز عليهم بملابسه السَّنية، يشبك
يديه تارة وتارةً يفتحهما، واذا ما تعرّض لسؤال فإنه يبادر الى حَكّ جلدة رأسه
العليا ثم يتمتم بكلمات غير مفهومة كأنه يناجي نفسه، ولا يجاوب الاّ بعد ان تُعيد
عليه السؤال، فهو قد أعطى لأجوبته وزناً اثقل من الرصاص وثمناً اعلى من الالماس.
نموذج يحكي قصة الاكل في كل زمان ومكان، فهو في الصحراء
عقاب يترصد الفريسة، وفي الاهوار غرنوق يبحث عن سمكة، وفي الجبال أسد يلاحق طريدة،
وفي السهول حتى أرنب أو غزال، هو مَلك الصيد والقنص، البارع في العض والنهش، لا
يترك لحماً ولا عظاماً حتى ولو كان عظم القصّ.
تجابهه فيتمهل، وتنتقده فيتأمل، وفي الآخر هو من يجب ان
يأكل.
وبعد ان قضى ردحاً من العمر، تفرغ الى العيش بخفة -لكن
دون طيش- على ما تدرّه عليه املاكه، تلك التي اصبحت أحلى سلواته، يفقأ عيون حسّاده
بعبارة "المُلك للّه" التي حفرها النحاتون بخط بارز على الحجر على
واجهات كل ممتلكاته.
وشاءت الاقدار ان يكون أحد مستأجري بيت من بيوته أو شقة
في احدى عمائره، ذلك الرجل المُعْسِر الذي أتاه مستعطفاً أن يأويه في أحدى تلك
المسالك التي يملكها، ومن حسن حظه أو قُلْ من أسباب خُسْرِه ان زوجته- وكانت ذات
حسن وبهاء- كانت تصحبه في تلك الصفقة، فلما وقعت عليها عينا الصقر سال لها لعابه،
وقرر في الحال ان تكون تلك الملفوفة القوام من اصحابه، فقدم لهما الشقة على طبق من
الذهب مؤملاً ان ينال ما يبغيه عند تحقيق الأرَب.
وفي أول يوم لانتقال تلك العائلة الصغيرة الى الشقة الجديدة
جاءهم المالك بصينية شواء تكفي وتزيد، و راح يوزع عليهم الطعام بيديه، وكلما
استكفوا قدم لهم المزيد وما زاد فليحتفظوا به للغد الآتي..
لكنه في اليوم التالي عاد وكرر الوليمة، لِمَ لا فالرجل
قد أفاض الله عليه بنعمهِ، فهو يملك مطاعم عدّة وهو يسخو على المستحقين بكل ما
يفيض عن تلك المصادر من الوان، ليحصل مقابل ذلك على آيات الشكر والعرفان، أوَ ليس
جزاء الاحسان الا الإحسان؟!
توالت الايام بطيئة ساكنة، و واظب السيد على تقديم
العطايا يحملها بنفسه، حتى أصبح واحداً من أهل البيت، يساعد في ترتيبه وفي شراء
المقتنيات والحوائج الناقصة، حتى اصبحت تلك الشقة جنة صغيرة يظلّلها راعيها الجديد
بعنايته، ويجعل ايام ساكنيها رخاءً و راحة بال.
ذات يوم جاءت السيّد هدية من الصحراء مجموعة من طيور
الدرّاج -والدراج طائر طيب اللحم من نوع القبج أو الحجل وأكبر منهما- الفاخرة، فلم
يسوّغ لنفسه ان يأكلها لوحده، فحملها الى أصحابه نزلاء تلك الشقة بعد ان تحمصت وحُشيت
باللوز والفستق وزينت بالنعناع والكرّاث.
بعد تلك الأكلة الشهية التي التهمتها العائلة عن آخرها،
ومصمصت اصابعها حتى غدت بيضاء كالثلج فأثارت في نفس السيد لواعج قديمة، فقد تراءت
له تلك الاصابع "كأصابع الملك" تلك الحلوى البيضاء التي كان يشتهيها في
طفولته ولا يحصل عليها الا بصعوبة.
وعندما وجد له خلوة بتلك المرأة، اقترح عليها ان يقبل
تلك الانامل البيضاء، فلم تجد بدّاً من الموافقة، وهل لها ان ترفض طلباً صغيراً
لسيد نعمتها؟
لكن عندما أراد ان يتمادى اكثر فهمت مراده ولربما انها
أدركت ذلك الأمر منذ زمن بعيد فسارعت بالقول:
- والله ياسيّدي انا ايضاً احبك فإنني -والله
شاهد- لم أذق طعماً لشواء ولا حتى ملأت بطني من زاد الا على يدك، واذا كنت تحبني
حقاً فليكن الأمر بالحلال وعلى سُنّته تعالى وأوامر رسله، ومن فوره بادر المنعم
الى اقناع الزوج وترضيته بمبلغ من المال، على ان يطلق زوجته تلك التي احبها في
ايام العسر، وان يقبض الثمن ويبدأ حياة جديدة مع امرأة اخرى، وان يحتفظ بالصبي
ويترك البنت لأمها اذا شاء، فلقد كانت ثمرة ذلك الزواج ولداً وبنتاً تقاسمهما
الوالدان بالتساوي.
جاء الزوج –السابق- ليأخذ حاجياته القليلة وليصطحب ولده
فطالعته صورة الزوج الجديد معلقة على الحائط بكوفيته وعقاله والعباءة المُسرّمة
على كتفيه، فلم يكن منه الا ان يستعد امام تلك الصورة ويؤدي لصاحب الصورة التحية
قائلاً:
- سيدي الجنرال، أقر بأنك هزمتني في الساحة
وأية هزيمة؟ لقد أخذت مني زوجتي وابنتي فتحية لك والسلام!
بعدها اصبحت تلك المرأة سيدة العمارة، تؤجر لمن تشاء
وترحل من تشاء، وتؤدي واجباتها "الزوجية" بكل مثالية وعطاء، تمنح الحب
لولي نعمتها ولا تنسى ان تقدم له في كل آن آيات الشكر والثناء، لكنها كانت حازمة
مع ابنتها التي كانت تنمو وتكبر فتقول لها دائماً:
"بُنيتي العزيزة: حذار ان تمدي يدك الى صحن غريب،
ولا تأخذي من يده حتى ولو كان قطعة حلوى....
ابو يوسف
تعليقات
إرسال تعليق