الجبال الجليديـة، وتوازن القشرة الأرضيـة


ومضـة

 الجبال الجليديـة، وتوازن القشرة الأرضيـة

     للأرض قشرة خارجية رقيقة، يتراوح سمكها من 7 إلى 10 كم في المحيط، و 20 إلى 40 كم في القارات. في المناطق الجبلية العالية قد يصل سمكها إلى 70 كم، إذ لا تكن القشرة مرتفعة فحسب، بل غائصة في العمق أيضاً، وهي ما تسمى بجذور الجبال. فيما تحت القشرة وإلى عمق 2900 كم، تسمى بالجبّـة. يليها الَلّب ويبلغ إجمالي نصف قطره حوالي 3470 كم تقريباً. تركيبه مائع من الخارج، ومتصلب من الداخل. تصل درجات الحرارة فيه إلى حوالي 6000 مئوي، وضغط يقارب مليون جوّي. تفيد الدراسات الحديثة بأن الغلاف الصخري الصلب للأرض، يتضمن القشرة وجزء علوي من الجبّة، ويدعى بالغلاف الصخري. إنه ليس قطعة واحدة، بل منقسم إلى العديد من القطع هائلة الحجم، تعرف بالصفائح، يبلغ سمكها المائة كم تقريباً. إذ بعد ذلك العمق تنصهر نسبة ضئيلة من المكونات، وتتغير طبيعة الصخور، فتصبح المادة الصخرية ليّنة، وتدعى بالغلاف الرخو. ويمتد هذا الغلاف حتى عمق 350 كم. بعدها تصبح الصخور صلبة.
     يمكن القول بأن الغلاف الصخري يطفو فوق الغلاف الرخو، كما تطفو كتلة جليدية في مياه البحر. وهذا ما يسمى بـ "توازن القشرة الأرضية". لغرض توضيح ذلك، يمكن تصور ثلاثة كتل جليدية مختلفة الأحجام عائمة في مياه البحر. من كل واحدة منها يظهر عُشر حجمها فوق سطح الماء فقط، ويظل الباقي مغموراً تحت الماء. تكون الكتلة الأكبر حجماً، لها أكبر كمية من الجليد تحت الماء. في الوقت ذاته تكون قمتها هي الأعلى. كذلك للقارات جذوراً تمتد في الأعماق حتى الغلاف الرخو، وتكون أعمق تحت سلاسل الجبال العالية، منها تحت السهول القارية. مثال توضيحي آخر: قارب في الماء وعلى متنه عدد من الأشخاص، فكلما نزل أحد منهم، ارتفع القارب عن الماء، وبالعكس. إن الغلاف الصخري يتفاعل تماماً بنفس الطريقة مع الغلاف الرخو. أما كيف يتم إضافة الأثقال أو إزالتها؟، فهناك الجبال الجليدية مثلا، إن كان في حالة نموها أو ذوبانها:
لو التفتنا إلى تاريخ الأرض، لوجدنا أدلة تشير إلى حدوث فترات جليدية رئيسية. آخرها كان في غضون المليونين سنة الماضية. لم يكن العصر الجليدي مجرد تقدم الجليد فوق اليابسة، ومكوثه بعض الوقت، ثم تراجعه. وإنما كانت هناك تقَدّمات وتراجعات عديدة، تتخللها فترات تتقلص فيها الكتل الجليدية، أو تختفي في بعض المناطق. آخر تقدّم جليدي حصل قبل حوالي 18 ألف سنة، وغطّى خلالها 30% من اليابسة تقريباً: 10 ملايين كم مربع في أمريكا الشمالية، 5 ملايين كم مربع في أوروبا و 4 ملايين كم مربع في سيبيريا. بالطبع كلما كانت الكتل الجليدية تنمو أكثر، كلما كانت مياه المحيطات تنقص، ومستوى سطح البحر ينخفض. مع ذوبان الجليد يعود مستوى سطح البحر إلى الارتفاع. تفيد التقديرات بأن مستوى سطح البحر، خلال التقدم الجليدي الأخير، كان أقل مما هو عليه الآن بمائة متر تقريباً.
     بما أن الغلاف الصخري للأرض يتكون من صفائح عظيمة تطفو على الغلاف الرخو بشكل متوازن؛ فكلما نمَت الجبال الجليدية، ازداد وزن القارة، وتعمقت جذورها أكثر. جزيرة غرينلاند مثلاً، التي تقع على الدائرة القطبية الشمالية، مساحتها تزيد على مليونين كم مربع، ترزح معظمها تحت طبقة من الجليد سمكها حوالي ثلاثة آلاف متر. هذا الثقل أدى إلى انخفاض الأرض ما دون مستوى سطح البحر. وعندما يذوب الجليد، سترتدّ الأرض وتبدأ بالارتفاع. وهذا ما يحصل اليوم في الأراضي الإسكندنافية. عندما كان التقدم الجليدي، قبل حوالي 18 ألف سنة، في أوجِهِ، كان ثقل الجليد كافياً ليدفع بالغلاف الصخري إلى الأسفل. مما أدى إلى انخفاض في القشرة الأرضية. وبسبب ذلك اندفع قسم من الغلاف الرخو إلى جهة الجنوب، الأراضي الهولندية اليوم، وجعلها ترتفع. وبعد زوال الجليد، قلّ الضغط، فعاد الغلاف الرخو إلى الشمال. مُحدثاً ارتفاعاً في الأراضي الإسكندنافية، وانخفاضاً في الأراضي الهولندية.       

                                                                                                  سعيد لوقا
                                                                                               (إعداد وترجمة)
عدد44



تعليقات