قراءة في كتاب حكمة الكلدان


قراءة في كتاب
حكمة الكلدان

اعداد: نوري بطرس
هذا الكتاب من تأليف الدكتور حسن فاضل، وهو من اصدارات بيت الحكمة في بغداد ومراجعة الأب الدكتور يوسف حبي.. في المقدمة أشار الباحث الى النتاجات الاولى في الفكر العراقي القديم، فهناك حوار بين السيد والعبد، وهذا النص يعود الى الالف الاول ق.م، وهناك ايضاً نص آخر بعنوان حوار في العذاب الانساني، وهذان النصان هما دلالات رمزية على علاقة البشر بالالهة منذ القدم، والتمييز بين الخير والشر، وفي معرفة قيم الانسان في سبيل ادراك الحقيقة. اما نص احيقار الذي يعود الى القرن السابع ق.م في زمن الملك الاشوري سنحاريب، فهو ايضاً له صورة الانسان الفاضل في المجتمع العراقي القديم، وهو من الانجازات الفكرية التي تظهر الجوانب المشرقة من حضارة بلاد ما بين النهرين، وبذلك نجد ان ملوك الكلدان بذلوا جهوداً كبيرة –على ما سنرى لاحقاً- في سبيل جمع التراث وحفظه والانطلاق من الماضي لرسم صورة الحاضر، وبقيت الحضارة الكلدانية مستمرة في عطائها الثقافي حتى بعد سقوط بابل (539 ق.م) ولابد لنا بعد هذا ان نشير الى آثار المؤرخ والحكيم والعالم الكلداني المعروف برعوشا البابلي الاصل، وله كتاب في تأريخ بابل، وقد ترجم الى السريانية ثم الى اليونانية وهو مفقود أصله، وجعل بابل في كتاباته محور حركة التأريخ، وقد ذكر برعوشا في كتابه اسم اوانس الذي خرج من البحر ليعلم الناس الكتابة، وهذا ما يقودنا الى الاستدلال الى قصة سفر يونان النبي وخروجه من جوف الحوت ليعلم اهل نينوى الايمان والحكمة، وقد ارتبطت الحكمة في بلاد ما بين النهرين بالكلدان، من حيث معرفتهم بالكتابة والعلوم والقوانين الاجتماعية، وحسب ما وردت في نصوص بابلية في عهد ثلاثة ملوك وهم (نبوبلاصر، نبوخذنصر، نبونائيد).
ان النصوص والرقم الطينية التي وجدت في المدن البابلية القديمة مثل (سبار، اريدو، لارسا، و اور)، تدل على تطور الفن والكتابة واساليب الحياة لدى البابليين القدماء، وقد اشار الباحث جورج رو الى ان اليونانيين قد تأثروا كثيراً بالفكر الكلداني واخذوا منه الشيء الكثير، خاصة ما يتعلق بالاساطير والحكمة والمعرفة وتفسير الكون والنجوم والالهة. وهذه المفاهيم وردت واضحة في كتابات ارسطو وافلاطون وسقراط، اضافة الى ما اشار اليه المؤرخ اليوناني هيرودوتس في بحثه التأريخي، كما وردت اشارات واضحة في الالياذة والاوديسة الى ملامح الفكر البابلي القديم، وما اخذه اليونانيون من افكار واساطير وملاحم، ذكرت في ملحمة كلكامش واسطورة الخلق البابلي، كما اكد الاستاذ (دي بورج) على تأثير الثقافة البابلية على اهم مدنيات الازمنة القديمة ومنها المدنية العبرانية، كما جاءت في الفصول الاولى من سفر التكوين التي تقرأ فيها جنة عدن والطوفان والتابوت وبرج بابل وبلبلة الالسنة، كما ان اجدادهم كانوا قد سكنوا مدة من الزمن في كلديا، ويبدو ان الرمز البابلي للاله ايا قد انتقل الى المعتقدات العبرانية التي جسدها سفر يونان في العهد القديم، كما ان اسم عشتار البابلية ورد ذكره في سفر التثنية من التوراة العبرانية.
ومن جهة اخرى لابد لنا من تأكيد، ان عصر الملوك الكلدانيين خلف لنا على الرغم من قصره (87 سنة) (626-539 ق.م) وحدة عميقة حفظتها لنا السجلات التأريخية التي ورثها لنا هذا العصر، فضلاً عن النصب والمخلفات المادية والمدونات الملكية والرسائل والوثائق التجارية، واعطت صورة شبه متكاملة للمملكة البابلية الحديثة، حيث كرس الملوك الكلدان وقتاً وجهداً واموالاً لاعادة بناء المعابد والمدن، واحياء الطقوس القديمة، والاحتفال بأعياد اكيتو، والانجازات العمرانية لا سيما في مرحلة نبوخذنصر الملك الكلداني وما بعده، وامتدت من سبار الى اوروك، وفي بناء الزقورات والقصور ومعابد للالهة مردوخ وعشتار. وكان الملك نبونائيد حريصاً على تسجيل اسمه في كل بناية يوضع لها حجر الاساس، كما حرص هؤلاء الملوك على احتفاظهم بالسجلات التأريخية والحوليات السنوية عن اهم الحوادث التي حصلت في عهد ملوكهم، كما عرفوا فن تخطيط المدن و وضع الخرائط، حيث عثر على خارطة مدينة نفر التي يرجع تأريخها الى حدود الالف الثاني ق.م، كما أسس البابليون علم الفلك واخذ شهرة واسعة لدى الاغريق، وقد وردت اسماء مشاهير الفلكيين البابليين في الكتابات اليونانية ومنهم: تيوريانوس، كيديتو في حدود 340ق.م.. ويمكن القول ان أهم مميزات العصر الكلداني هو طغيان شعور وطني على اهل بابل، تتضح منه الرغبة في جعل عناصر حضارة الكلدان متميزة قدر الامكان عن حضارة الاشوريين رغم انها وحدة تأريخية مشتركة. كما جاءت في النصوص البابلية القديمة والوثائق المتوفرة، ان المرأة البابلية تمتعت بشيء من الحرية، حيث اصبحت ملاّكة الاراضي وصاحبة الاملاك ولها حق التصرف فيها، وقد وردت هذه النصوص في شريعة حمورابي الملك الكلداني.
يرتبط اسم الاله مردوخ بالبابليين وفي العاصمة بابل كما جاء في المدونات البابلية وكان يمثل رمزاً قومياً، كما دونت اخبار الملك نبونائيد الشعرية خلال مدة الاحتلال الفارسي الاخميني للعراق، وفي اواخر سلالة بابل الاولى نرى الاله مردوخ يتربع على عرش الالوهية والناس جميعاً، حيث كانت بابل المركز الثقافي والسياسي في ما بين النهرين. وهناك قصيدة ادبية دونت باللغة البابلية والسومرية في حدود القرن السادس ق.م، تشير الى الزعامة لبابل ايام نبوخذنصر الثاني عشر عليها في موقع سبار القديمة، حيث تقول: شيدت بابل، واكمل ايساكيل
وجمع مرودخ فوق سطح المياه طوفا
خلق البشرية،
و وضع دجلة والفرات
وخلق العشب والاغصان والقصب
والاراضي والاهوار والقصبات
وخلقت الالهة اور وجنس البشر
وهكذا سعى الانسان في علاقته بالطبيعة في الفكر الرافديني القديم، الى تجسيد هذه المقولة في الكثير من الممارسات في حياته اليومية وتجربته المعاشة، وفي عقائده وافكاره، والانتقال الى العقل الكلي المجرد لضمان ديمومة الحياة.

منشور في جريدة بيث عنكاوا عدد 44

تعليقات