قصة قصيرة
الفك المفترس
2-3 ابو يوسف
بعد أن عضَّ وفتك ونهش وهَتك، وذاق من اللذات ما تعجز عن
بلوغه الأمنيات، خمدتْ من نارٍ شهواته، وتقلصت من شبعٍ نزواته، فراح يرنو الى جديد
يعيد اليه نشاطه المرير.
كل شيء ممكن أن يتغير فيه الا حدة البصر، فلقد حباه الله
عينين كحدقتي صقر، وامام تلك العينين كانت الإبنة تنمو وتكبر، وها هي قد أمتلأت
واكتملت مثل البدر يوم الرابع عشر. لقد علا صدرها ومن اساره نَفَر، يسرّ الناظر
العطشان مثل قربات الغجر، وامتلأت دوائر فخذيها وعلت دفات كتفيها فأصبحت موضعاً
للنظر واشتهاء للطالبين من ذوي البَصَر. في الغرف المقفلة تجري وراء ابوابها عادةً
فصولٌ غير جديرة بالتصريح ولا الإفصاح عنها بالتلميح. لكن للأحياء عيون تنظر سواء
كبروا أم صغروا، وكانت تلك الصبية المشتهاة قد وجدت الطريق الى فك الأسرار ومعرفة
ما يدور في الليل وبعض أطراف النهار، ذلك الطريق الأزلي لكل المكبوتين والممنوعين
من الإبصار، إنه التلصص من ثقب الباب.
كانت الصبية تتسلل الى موقعها كلما علا من الداخل ضحك أو
مناجاة أو عتاب، وتحملق وتديم النظر فترى عيناها لذلك العجب العجاب.
وفي كل مرة كان يجمح بها الخيال الى أن تكون هي الشريكة
في تلك اللذاذات والأطياب، بأن تحل مكان أمها وراء ذلك الباب.
كان الزمن يفعل فعله، صبية تنمو وأم تكبر، كذلك فإن
للصقر عيون تنظر، ولن يترك في الروض غصناً بعيداً عن مناله أكان من اليابس أم
المثمر، فهو صاحب الأمر والنهي وهو المالك وسيد العطايا..
لم يجد هناك شيئاً يمنعه عن ملامسة اوراق تلك الوردة
المتفتحة للطل والندى، معززا مواقعه في قلبها الصغير بالهدايا الثمينة والجميلة
التي كانت تقبلها بسرور وامتنان، ناسية نصيحة أمها بعدم قبول عطية الغرباء حتى لو
كانت صغيرة بقدر قطعة حلوى، لقد تقبلت من ذلك الرجل الذي كان مفروضا به أن يكون
بمقام والدها، كل ما يقدمه لها من حلوى وحلي وملابس مزركشة، وتسامحه بالمقابل
بمعابثاته الصبيانية التي كانت ترتاح لها هي ايضاً من وراء ظهر الأم وغفلتها. ولكن
هل كانت تلك الغفلة. حقيقية من الأم الذكية؟ لقد شعرت بغريزتها أن شيئاً ما يحدث
من حواليها، فصرخت يوماً بفتاتها صرخةً جفلت لها الصبية فصاحت:
-
العفو
ماما... ليس ذنبي.
هكذا الأمر إذن أيها الرجل وهكذا يكون العهد والإخلاص،
وهل يحق لها ان تتحدث عن القيم وهي التي باعت زوجها الأول وكيانها كلّه من أجل
أكلة شهية؟
لاتغضبي يا أمرأة- يقول السيد - ماذا يضير أن أمد يدي،
الى الصحن الصغير بعد أن أمتلأت من الصحن الكبير؟
-
والان
خذ اغراضَك وأخرج فليس لك مكان في هذا البيت بعد الآن..
اخذ السيد حاجاته نزولاً عند غضبها وترك لها البيت
والبنت وعاد الى زوجته الأولى، وما ان مضى اسبوع واحد حتى عاد كل من الأطراف الى
رشده.
فالمرأة لم يسجل باسمها شيئاً فالملك لصاحبه. اما الذي
دفعته فكان ثمناً للقمتها ولقمة ابنتها، فإما الإنصياع أو الضياع.
قَرُبَتْ ايام الحجّ فأرتأى السيد أن يكافئ تلك المرأة
التي منحته محبتها بتحقيق أمنيتها بأداء الفريضة التي يتمناها كل انسان. ففرحت
بالعرض الذي طرحه عليها، أملاً بأن يمن عليها العلي القدير غفار كل ذنب بعفوه
وصفحه لما تقدم من ذنبها وما تأخر.
وآمنت بسلامة نية سيدها وزوجها، وتركت لديه آبنتها وديعة
ائتمنته عليها فوعدها خيراً، عاد الى البيت يصحب أمانته كذئب تلحق به أنثى الغنم
بعد ان فصلها عن القطيع. وراح ينهل من النبع الصغير الصافي متمتعا بأسعد اللحظات
حتى عودة الأم الى الديار، تلك العودة التي كادت تفقدها رشدها! لقد شاهدت بأم
عينيها ما يحدث لابنتها وعلى المكشوف، ومع ذلك رضيت بالوضع، لكن طلبت من السيد أن
يقبل بالطلاق وهذا ما كان يبغيه هو ايضاً.
وكضمان لمستقبلها فإنه سجل العمارة بأسمها لتكون
وارداتها مصدر العيش الآن وفي المستقبل، وان يتزوج هو بابنتها فتصبح الحماة
الجميلة بدل الزوجة المدللة.
-
ولكن
فارق السن، انها بعمر حفيدتك الا تخاف من رب العالمين؟
-
انا
لا أخالف شرعاً ولا أغتصب اغتصاباً فأنا أيضا يطيب لي أن يكون كل شيء بالحلال.
نظرت بعيداً في أمر مستقبلها ومستقبل ابنتها، فقادتها
نظرتها الثاقبة وأفكارها الحكيمة الى أن تقبل بالوضع الجديد.
وجاء القاضي نفسه ليقوم بتنفيذ عمليتي الطلاق والزواج في
آن واحد، ومن حينها اصبحت الإبنة هي صاحبة السرير
والأم وراء ثقب الباب، كان الوضع الجديد مرهقاً بعض الشيء على المتمرس
الخبير، فآستعان بما انتجه العصر من العقار المفيد يستعمله دون تعقل أو ترشيد. ولم
تكن حماته – زوجته السابقة – لتمتنع في منحه بعض الأويقات التي يتذاكران خلالها
ايامهما الجميلة في غياب – الإبنة – الزوجه الحالية – التي تكون قد خرجت من البيت
لاستكمال بعض الإحتياجات التي يقصر في تلبيتها الزوج العتيد.
في تلك الاثناء كان البعض من أهل الاختصاصات في الحي
كالقصاب والعطار وبائع الخضار وحتى بائع النفط والغاز، يجلبون بأنفسهم الحاجيات
إلى اهل البيت، وكان كل من اولئك المهتمين حريصاً على ان يكون متأنقاً، نظيفاً وهو
يحمل بضاعته، وكانت المرأتان لا تتحرجان من الظهور بملابس النوم الشفافة في اكثر
الاحيان، مما يلهب مشاعر اولئك الرجال الذين لم يبخلوا في المساهمة لإكمال النقص
الذي يعجز عن إيفائه جسد السيد الكبير، ولاحظ أهل الحي تلك الأحوال ولكن ليس لأحد
أن ينبس ببنت شفة، فالناس غير معنيين أولاً بما يحدث، كما انهم ليسوا مستعدين
لمجابهة ذلك المفترس الكبير أو الوقوع تحت سطوته.
مضت الأيام بطيئة كسولة على تلك الصحبة التي يسير كل شيء
فيها بالتراضي وتحت السيطرة من قبل السيد الذي يوازن الأمور كلها بقوة شخصيته، وإن
لم يكن فبماله الذي يغدقه من غير حساب- لِمَ لا- فهو حُرّ في مالٍ جمعه بنفسه، وهو
على الرغم من كل ما يقال لم يخرج على حدود الشرع، والعرف المقبول، الاّ أن الذي لم
يكن في الحسبان أيقظه عند انبلاج الفجر في ذلك اليوم الربيعي وخلخل ساعة الزمن
وشوش على نظامها، صوت عالٍ يهدر في الأرجاء ويبعث الريبة والخوف في جوارحه.
نهض من سريره واتجه نحو النافذة كان الصوت جلياً مزمجراً
لا يقبل الشك، مد يده وازاح الستارة ببطء ومد ناظريه نحو الاسفل وكادت الدهشة تعقد
لسانه، عاد ببصره نحو السرير فرأى الفتاة – زوجته – تغط في نوم عميق رخية البال،
فراح يقلب النظر بين تلك النائمة على السرير وبين تلك التي تسير على اسفلت الشارع،
ترفرف فوقها أعلام أدرك الوانها رغم عدم اكتمال الضياء في ذلك الفجر الربيعي وراح
يردد لنفسه:
-
انها
الدبابات الامريكية!
تعليقات
إرسال تعليق