نعم للشحاذة .....لا للكرامة
كمال لازار بطرس
أيـام زمان كان التسول يقتصر على أولئك الذين يعانون من وطأة الفقرروالجوع والمرض, أناس تقطعت بهم سبل العيــش، فلم يجدوا بــداً من ركوب الصعاب في صراع مرير مع قسوة الزمن، فلجؤوا الى هذا الاسلوب المهين حفاظاً على حياتهم مـن الهلاك، أو
القضاء جوعاَ.
أما اليوم فالصورة تختلف تاماً, إذ لم تعد الشحاذة تقتصر على أولئك الذين كانوا يفترشون الارصفة و يتسكعون في الشوارع أو عند مداخل الازقة الضيقـة, فقد دخل الميدان شحاذون جدد، البعض منهـم لم يعش، أو يعـايـش الفقر من قبل. و لم يذق طعم الحرمان أو العـوز في حياته. ترى ما الذي دفع بهـؤلاء إلى هذا المنزلق الخطير، أو إلى هذا الدرب المشني؟! إنها عقدة المال التي تتحكم في
النفوس المريضـة, و لعلها أخطر آفة انتشرت في وسطنا الاجتماعي الذي لا تعرف من فيه مع مـن، ولا من فيه ضد من, في ظروف تتداخل فيها الشؤون والشجـون مع بعضها تداخل غريبا إلى درجة تثير الريبة والشك.
والشحاذون أنواع: منهم من يشحذ موقفاً لصالحه في قضية معيّنة ومنهم من يشحذ الشهرة، ويهرق ماء وجهه على الأعتاب، وشيئاً فشيئاً يأخذ على ذلك حتى تتحول الشحاذة عنده إلى قاعدة، ورويداً رويداً يشعر أنّها شرف رفيع، وأنّها الطريق الأقرب والأسهل إلى جمع المال. وهناك من يشحذ المديح والتصفيق من بعض المنتفعين المصطفين حوله، وبفعل التكرار، يخال أنّ الدنيا كلّها تصفّق له،
وأنّ الناس يُسبَّحون بحمده، وهذا النوع من الشحّاذين جدير بالشفقة والعطف لأنّه أتعس مخلوق بشري على وجه الأرض.
إنّ أكبر المتسولين من لا تبدو عليه مظاهر التسول، أو لايدل أي تصرف فيه على أنه متسول .. بل على العكس، إنّ كلّ ما فيه وما يبدو عليه يعطي الإنطباع بأنّه بريء من هذه التهمة الوضيعة التي لَصِقت به.
وأخطر المتسولين ذاك الذي يُتقن أنجع الكلمات في إستدراج العواطف وإستمالة القلوب. ومن سخرية القدر أن تتحول الشحاذة
في هذه الأيام، من ذلّ قائم إلى عزٍّ دائم:عزٍّ مزيّف، يسعى إليه البعض ممن يعانون من عقدة الشعور بالنقص، وهم بذلك يناقضون أنفسهم فيما يقدمونه من تنازلات على حساب كرامتهم، في سبيل أن يحصلوا على لقب )الشحّاذ الأشطر( أو ) الرأس الأكبر( في
الشحاذة! وما أكثر الذين يتسابقون على حمل هذا اللقب التأريخي في هذه الأيام، وصاحب هذا اللقب الجديد عادة ما ينرفز ويعنفص ويعنطز، إذا لم تُكل له المديح، أو لم تعطِهِ حقه من حلاوة اللسان، ويأخذ على خاطره منك إذا لم تخلع عليه صفة (الرأس الأكبر).والرأس الأكبر هنا تعني: المخطط، والشحّاذ هو من أكبر المخططين، فهو يعرف في أيّ وقت يجب عليه أن يتحرك، ويتقدم خطوة إلى الأمام، كأنّه عالم نفساني، يدرس الوجوه بإمعان، يدرس الوجوه ثم يقترب من الهدف، يعرف كيف يختار أكثر الجمل تهذيباً وإثارة للمشاعر، يصطفي أبرع المواقف لكي يقنعك أنّه شحاذ متمرس، وحين تقتنع، أو تشفق عليه أو تسايره، يظن أنّك )الفريسة التي كان يبحث عنها منذ زمن ( فيهيء نفسه للطعام، ويستعد للوجبة الدسمة. هؤلاء هم الشحّاذون الحقيقيون، ) أصحاب خبرة وممارسة …شحّاذون محنّكون بكل المقاييس ولكي تشاهدهم على الطبيعة، راقبهم من بعيد، وراقب تصرفاتهم، حذاري أن تقترب منهم أو تحتك بهم، لأنك ستتلوث، فالشحاذة تصيب بالعدوى، الواحد يصيب رفيقه، والرفيق يصيب رفيقه الآخر، وهكذا دواليك، حتى لا يعود هناك مكان للصالحين إلاّ قليلاً.. نعم إلاّ قليلاً، فالصالحون موجودون دائماً.. موجودون في كل مكان وزمان، هم وجه الخير الدائم، هم هدير البحر وصوت الريح، هم دفء الشمس في أيام الشتاء الباردة. أمّا أولئك الشحّاذون الذين يسيرون في درب الشحاذة ورؤوسهم مرفوعة، فهنيئاً لهم هذا العار الذي الحقوه بأنفسهم، هنيئاً لهم هذا السقوط المروّع، وأياديهم ممدودة للإستعطاء، وألسنتهم ممدودة للإستجداء وعيونهم ممدودة للنحيب والبكاء. فليمرّغوا أنوفهم في الوحل، ويبكوا.. ليبكوا حتى يموتوا، ولنبكِ عليهم، لا معهم.
و لكن هل يستحقون أن نبكي عليهم؟
لا.. فدموعنا أنبل بكثير من أن
تُذرَف على اولئك الذين رفعوا شعار (نعم للشحاذة .. لا للكرامة).
منشور في العدد 20
تعليقات
إرسال تعليق