الفك المفترس


قصة قصيرة
الفك المفترس
3-3                                                       
 ابو يوسف
السقوط
عاد الى فراشهِ يلتمسُ دفءاً شعر بالحاجة اليه على الرغم من قدوم الربيع بنسائمه المنعشة، وأحسّ بالحاجة اكثر الى ملامسة ذينك الفخذين الرخصين التي تزيل كل شعور بالتوتر لديه، وتشيعُ السلام والراحة في كيانه.
وعندما استيقظ في الصباح تحسس اعضاء جسده فوجدها كاللحم المفروم فلقد استنزفته الصغيرة بمفاتنها وحلحلت كل اربطته، وهي ما تزال الى جانبه تتقلب في نومتها ملفوفة ثابتة كأنها قطعة من جهنم كلما قيل لها:
-هل امتلأت؟ قالت: هل من مزيد؟
وهو على هذه الحال مازال يعيش سعيداً ينهل من اللذات كلها غير آبه بما يخبئه الغد ولسان حاله يقول: "كُلي يا نفسي وتنعمي فلقد هيأت لك خيرات كثيرة".
الا ان المنظر الغريب الذي صعق باصريهِ في الفجر كأنه انفجار نيزك عظيم، اثار في نفسه شكوكاً اقلقت راحته وجلبت عليه الافكار السوداء.
لبس ثياب الخروج و وضع عباءته المسرمة على كتفيه والكوفية البيضاء والعقال على رأسه، وخرج الى عرض الشارع. قاد سيارته بهدوء، وفي كل مسافةٍ تواجههُ الدبابات الامريكية تدك الأرض بثقلها وترفع اعلامها ذات المستطيلات الحمراء والنجوم التي لم يستطع ان يحصيها عدداً.. ولكن ماذا يهمه ان كان الامريكان ام الوطنيون هم الذين يحكمون؟ طالما ان نقوده واملاكه في الحفظ والصون؟.
في الطريق الى بيته القديم تذكر زوجته الاولى والادوار غير النزيهة التي كان يلعبها معها. فحين توفيت ابنةٌ له في عزّ شبابها وتركت جرحاً في قلب العائلة، فهو قد حمل الأم وحدها مهمة ممارسة طقوس الاحزان، فكان يخرج الى دور اللهو والشرب يقضي الردح الاكبر من لياليه يرشف عصائر النهود والشفاه ويغسل ما علق بشفتيه بسلاف الكؤوس الطافحة بدماء الاعناب القادمة من اقاصي الارض. حتى اذا لم يبق في نفسه من فضلة الأنسِ بقية، يعود الى تلك الزوجة المسكينة فيراها ماتزال سهرانة مع دموعها فيقول لها حين تسأله:
-        وانت.. اين كنت؟
فيجيبها مفتعلاً التوجع والأسى:
-        تسألينني اين كنت؟ في المقبرة.. الى جوار ابنتي!
فتنهار المرأة لسماع تلك الاكذوبة الشنيعة، وتبدأ بالنواح حتى انبلاج الصباح بينما يغط هو في نوم عميق.
وصل الى بيته القديم فقابلته زوجته واولاده بلهفة واستغراب وعدم اطمئنان على الغد، فقضى بينهم معظم النهار حتى جاءه الخبر ان المدينة آمنة وليس هنالك ما يقلق.
عندما سمع بـ (الحواسم) اي حالة النهب والسلب التي عمت المدينة وسميت بهذا الأسم نكاية بالرئيس المخلوع، تأهب في اليوم التالي للمشاركة ولو جزئياً بالذي يحدث، وخاصة في قصر الطاغية الذي كان الاقتراب منه حتى الأمس محرماً على الناس اكثر من حرمة البيت العتيق على الذميين من اهل الكتاب أو الوثنيين من عبدة النار والاحجار.
دخل بسيارته الى منطقة القصر من الشارع الذي كان مسدوداً لسنين، وهو الشارع عينه الذي يؤدي الى املاكه والذي كان يضطر الى تغيير مساره لمسافات طويلة بسبب ذلك المنع القسري. لقد شاهد في تلك الجنة الغنّاء حدائق منتظمة وبحيرات تسبح فيها الدلافين الجائعة منذ يومين، دلف الى داخل مبانٍ اسطورية دمّرت القذائف الامريكية سقوفها باشكال دائرية وتركت جوانبها هشة صارت مصيدة للمتطفلين على ذلك القصر المسحور، ولقد مات ستون شخصاً -عدداً- عن طريق سقوطهم في تلك الفوهات أو من الشرفات التي نزعت عنها الحواجز في عمليات الانتقام الغريزي من النظام البائد.
ثريا ثمينة جميلة ماتزال معلقةً لم تصلها الأيدي لفتت نظره فعلل نفسه بالحصول عليها، الا ان احد الناقمين وكان يحمل خشبةً طويلة عاجلها بضربات، وماهي الا لحظات حتى تهاوت تلك التحفة الثمينة حطاماً لا يصلح لشيء..
ومع ذلك لم يرجع خالي الوفاض، فقد غنم بعض صنابير المياه والخلاّطات حملها الى زوجاته القديمة والأقدم والأحدث، وزعها عليهن على سبيل التذكار لما كان يوماً قصر الرئيس.
ركن الى الوضع الجديد و راح يتنعم بفضائل التحرير الامريكي، وربما خطر له ان يشغّل اولاده مع الامريكان أو ان يأخذ المقاولات منهم، لكن الذي عنده كثير، وهو ليس في حاجةٍ الى مثل تلك الاشغال التي تجلب اليه النظر، وهو مثل أصحابه من اثرياء المدن يحرص على الانكفاء على الذات في متقلب الاحداث..
ما هي الا أشهر قليلات، حتى تلبدت سماء المدينة بسحب رمادية مالبثت ان تحولت الى سوداء بعدها بدأ المطر الاسود بالتساقط على رؤوس الناس فيقتلهم كل واحد بسبب، وصارت الهجرة الى الخارج أو الداخل وسيلة النجاة الاكثر أمانا في هذا الزمن الصعب.
رياحٌ غشوم حملت له اخباراً لا تسره، فإن ذلك الفتى، اخو زوجته الحالية وابن زوجته السابقة قد شب الان عن الطوق. وصار شاباً يدرك كل ما يجري حواليه ببصيرة ثاقبة. وقد زار أمه قبل ايام واخبرها ان والده مايزال يذكرها بالخير وهو مستعد للصفح عن كل ما فعلته شريطة ان يعود اليها. لكن الأم طمأنته الى ان المال كفيل باسكات الاصوات "النشاز" كلها.
انقطع عن موافاة ذلك المكان الذي من الممكن ان يجلب اليه الاذى، لكن وفاة زوجته القديمة والفراغ الذي تركته وفاتها جعلا الدماء تسري في عروقه من جديد، فحن الى لهيب النار يحرق فيه شهوات لا تسكت، فتوجه الى ذلك الركن الذي اتخذه عشاً لملذاته، فعاش يوماً وبعض يوم بين الاحضان الدافئة يتذوق من جديد عُسيلةً يعرف طعمها وينتشي بخمرتها، وفجأة رن جرس الهاتف فرفعت الأم السماعة، وما ان عَرَف صاحب الصوت حتى أُسقِطَ في يده..
-        آلو.. أمي انا قادمٌ اليكم.
انه الابن وها هو قادم بما لا تحمد عقباه، فآثر ان يترك المنزل حتى لا يواجه مالايرغب في مواجهته.
في طريق عودته احس بسيارة تتبعه، نظر في المرآة فإذا بذلك الابن يتبعه مثل ملك الموت، فقاد سيارته بأقصى سرعة، لكن ظهور رتل من الآليات الامريكية أطار صوابه، ولسوء حظه لم يفهم الاشارة الموجهة اليه بالتوقف، فعالجه جندي باطلاقة واحدة اصابته في رأسه، فانهار على مقود سيارته غائصاً في بركة من الدماء..
في السرادق الكبير الذي نصب من اجل العزاء، جاء الكثيرون لتأدية الواجب، واكثر منهم من اجل ان يملؤوا بطونهم من طعام يأكلونه بعد موته حرمهم منه ايام كان حياً، وكان صوت المقرىء يعلو في الارجاء:
"يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضيةً مرضية، وادخلي في عبادي وادخلي جنّتي".  

تعليقات