نجمة كلدانية في سماء تلكيف


ماري اسمر
نجمة كلدانية في سماء تلكيف
عرض: نوري بطرس
اسمها ماري تيريز، ولدت عام 1804 في تلكيف بين خرائب نينوى حسب ما تصف هي في كتابها النادر والثمين والذي تحتفظ به المكتبة البريطانية بكل اعتزاز، حيث صدر الجزء الاول في 318 صفحة والثاني في 350 صفحة في عام 1844 م. وفي الكتاب وعبر صفحاته نتعرف على امرأة شابة من بلاد ما بين النهرين، تغادر بلادها وتسافر عبر الصحاري والوديان وتمر بجبال وسهول، تزور سوريا وفلسطين ولبنان ثم الى ايطاليا وفرنسا وبريطانيا، وتشهد رحلاتها مآسٍ وضيق ومشقات ومعاناة، عبر اسفارها تقابل امراء وملوك وتقف في حضرة البابا، ترى هل هي حكاية ألف ليلة وليلة ام قصة واقعية لامرأة كلدانية عاشت في فترة كانت تغطُ في سبات عميق تلك هي فترة الاحتلال العثماني للعراق، كيف قدر لها ان تتحدى تلك المصاعب ثم تطالب بفتح مدرسة للبنات في مدينة الموصل وتزور اخت الباشا الحاكم في تلك المدينة، ثم تعمل كمرافقة للأميرة اللبنانية الشهابية وتسكن معها في بيت الدين مقر الحكومة اللبنانية ابان الفترة العثمانية. ونجد بين طيات كتابها كل شيء، وهي تصف لنا الطعام والملابس وطرق البناء والادوات المنزلية والعادات الاجتماعية وتحدثنا عن الاديان والطقوس المسيحية، ثم عن القوميات والطوائف كالايزيدية والكلدان والسريان، ثم عن البدو والاكراد، وتصف الطرق الصحراوية والنهرية، واعتزازها بتقاليدها وتفاخرها بها كان محور اهتمامها، وهي تردد ذلك في اية بقعة اوروبية أو اسيوية تحل فيها، على ان الشرق ليس مجرد حكايات اسطورية بل هو ينبوع الغنى والكرم والخلق القويم والصدق والجمال.
تضطر للتدريس لكسب العيش وهي تُدرس اللغة العربية لأحد البارونات الفرنسيين، تصف اعراس البدو والفلاحين بمختلف قومياتهم، تتحدث بعفوية وصدق وكأنها جالسة بين الأهل والأصدقاء، وفي كتابها نجد عادات وتقاليد الكلدان في الموصل، وعن مواسم الحصاد ودرس الحبوب وتحضير الطعام وانواع الخبز وعن برج بابل، كل هذا تتحدث عنه في كل مكان تطأه قدماها من ارض اوروبا، وهكذا نجد للصداقة و روح الاخوة مكاناً واسعاً في حياة ماري تيريز اسمر، وفي محيطها و وسط عائلتها تشير الى أهمية العلاقات الاجتماعية، انها أميرة بابلية كما جاء في مذكراتها في كتاب ممتع وجذاب، وفيه معلومات قيمة عن مجتمع متعدد الأعراق والثقافات في العراق ابان السيطرة العثمانية، وقدمت فيه رؤية موسوعية عن مدن تلكيف والموصل وبغداد وعن مدن اوروبا. وهي مسيحية مطاردة من قبل السلطات والباشا العثماني وسلطته الشوفينية، وحتى وصولها الى لندن ونشر كتابها في سنة 1844 وباللغة الانكليزية، وهي التي تتقن اللاتينية والفرنسية والسريانية والعبرية والهندوسية، واشارت في كتابها الى الاضطهاد الديني والطائفي من قبل السلطة العثمانية وكأنها تروي لنا احداث المستقبل من واقع تأريخي، وتتحدث عن تنوع اهتماماتها الثقافية في التأريخ واللغات والأدب والمسرح والترجمة والموسيقى ومن خلال تجاربها ورحلاتها واقتحامها لعوالم كانت تجهلها، وتعرضت من قبل الاوروبيين للابتزاز والخداع والسرقة. رغم احتفاء السفراء والنبلاء والساسة بها، بقي سوء الطالع يلازمها بالمرارة والكآبة في فراق اهلها و وطنها وأرضها، ومن خلال رحلة حياتها العجيبة. كتب عنها الكثيرون ومنهم: أمل بورتر الكاتبة والباحثة العراقية في كتاب (مذكرات أميرة بابلية)، وكاتب لبناني آخر كتب عنها في فترة الثلاثينيات. اننا لا ننسى اصلها الرافديني -تقول أمل- الذي يعود الى الفترات الكلدانية والآشورية والتي حكمت نصف العالم القديم، فهي سمير اميس أو شميرام الملكة. وهذه المذكرات تعد بحق وثيقة مهمة في تأريخ العراق الثقافي والحضاري، وعن وضع المرأة في المجتمع الريفي والحضري واليدوي تحت الهيمنة العثمانية القاسية، التي قدمتها لنا امرأة رحالة عملت في مجال التنوير في وقت كان المجتمع غارقاً في سبات القرون المظلمة، امرأة تسافر من بغداد وحيدة في قافلة لتجوب العالم وتكتب مذكراتها في مجتمعات غريبة، انها امرأة عاشت بين (1804-1854).

تعليقات