الثورات العلمية اختبار واختيار ...


ومـضـة
                                         الثورات العلمية اختبار واختيار ...   

     العلم وسيلة لفهم العالم من حولنا. وفي عمق هذا الفهم تكمُن التفسيرات التي يقدمها بخصوص الظواهر الطبيعية، إن كانت على شكل قصص، تفسيرات، فرضيات أو نظريات. فهي عبارة عن محاولات لوصف عمل الطبيعة، بناءً على قواعد أساسية من الأدلة والنزاهة الفكرية. كل نظرية أو استنتاج علمي، يجب أن تدعمه أدلة مبنية على أساس التجربة والمشاهدة.
إن التقدم العلمي يكون عادة بطيئاً ومتواتراً، كما يتطلب أيضاً انتظاراً طويلاً. المشاهدات القديمة حول الكون، كانت تستند، بشكل عام، على التصورات والأساطير، لا على نتائج التجارب الأرضية. وإن كان يوجد هناك مفكرون أقدمون انتبهوا إلى أهمية المشاهدات الدقيقة والاختبارات في صياغة أفكارهم. إن نجاح هكذا محاولات قد غيّرت من وسائل البحث، وفَتحت المجال أمام فَهمٍ أفضل للطبيعة. فاحتلّت المشاهدات والتجارب الجزء المركزي من طرق البحث. عليه فإن كل نظرية تبقى خاضعة للاختبار بشكل مستمر. وكلما تتأيد بالمزيد من المشاهدات والتجارب، تتطوّر ويتم صقلها تدريجياً؛ وبعكسه، يجري إعادة صياغتها أو أحياناً إهمالها، بغض النظر عمّا كانت قد حظيت به من قبول في الماضي.
إن صادف أن تجربة أو مشاهدة واحدة فقط، نقضت نظرية معينة، بالرغم من وجود أدلة أخرى تدعمها، فالعلماء يضطرون إلى رفضها. بالطبع قد يحصل هناك جدل حول أهمية دليل ما، أو اختلاف حول كيفية تفسير الدليل. أو أحياناً أخرى قد تكون المشاهدة صحيحة، ولكنها تفَسّر بشكل مغلوط. هكذا هو الحال في البحث العلمي. فهو مقرون بالفكر والعمل، أي بالنظرية والتجربة، وهذا ما يسمّى بـ "المنهج العلمي".
     أما مصطلح "المثال العلمي"، أي ((Paradigm، فهو مفهوم فكري، معدّ بعناية ليفسر أمراً ما. فهو الإطار الذي يساعد العلماء على فهم بعض أوجه الطبيعة، مثلاًً: نموذج القبة السماوية الذي يستعين به العلماء عند شرحهم  لحركة السماء، الشمس، القمر والنجوم. وإن كانت القبة السماوية غير موجودة فعلاً، إلاّ أن استخدامها كنموذج يساعد على التفكير في موضوع السماء. فالكون أكبر بكثير، وأكثر إثارة من ذلك النموذج العلمي القديم.
توماس كُهن، مؤرخ علوم مشهور في الستينيات من القرن الماضي، عَرّف مفهوم "المثال العلمي" بأنه مجموعة أفكار وافتراضات، تتطور من خلال مراحل وبدايات عديدة. فالعلماء يبنون فهمَهم للعالم الطبيعي على أساس التفكير والاستنتاج، من خلال نماذج علمية لعدة سنوات. ومن حين لآخر يظهر مفكر أو مجموعة مفكرين، يطرحون وجهة نظر جديدة، تُفنّد النموذج القديم من أساسه. وبعدها يبدأ العلماء بنبذ الفرضيات القديمة، ووضع فرضيات أخرى جديدة تتناغم مع النموذج الجديد.
كُهن يسمي هذا التبدل الحاد، بـ "الثورة العلمية". بعض هذه النماذج قد ينال نجاحاً إلى درجة أنه يتحول إلى قانون، ويستمر من دون تغيير.
     ثورة كوبرنيكوس، وغالباً ما تعتبر مثالاً نموذجياً للثورة العلمية. إذ في غضون بضعة عقود، شرع الفلكيون بالتخلي عن ذلك النموذج القديم للكون، والذي دام عدة قرون، وباشروا بتأسيس نظامٍ جديد من الافتراضات والأفكار. فحصل تحوّل من نموذج مركزية الأرض، الذي تضمّن حركة دورانية، وكل ما في السماوات كامل؛ إلى نظام جديد يتضمن مركزية الشمس، وحركة الأرض. قبلَ كوبرنيكوس، كان من الصعب على علماء الفلك أن يتصوروا الكون مملوءاً بالمجرات، لأن ذلك يقع خارج نطاق النموذج القائل بمركزية الأرض. لذا أن أهمية المثال العلمي تتأتى من دوره في تحديد المنظور للعلماء. فهو يحدد ما هي الأسئلة الواجب أن تُسأل، ما الأدلة الأهم، وماذا يمكن فهمه. إن نموذج مركزية الأرض مثلاً، فيه عيوب واضحة بالنسبة إلينا اليوم، لكن بالنسبة للعاملين في ذلك الوقت، وبموجب نموذج ذلك الزمان، كان من الصعب عليهم رؤية تلك العيوب. من المعلوم أن التخلي عن المفاهيم القديمة ليس بالأمر الهيّن، إلاّ إن الإنسان عليه أن يتعلم كيف يرى الطبيعة بمنظور جديد.
     في الفيزياء مثلاً، قام نيوتن بصياغة نموذج جديد لوصف حركة الأجسام. وتَمكَّن من أن يبرهن بأن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين الطبيعة. وإن النماذج القديمة التي كانت توحي بأن الظواهر الطبيعية تخضع للفلسفة الإغريقية، قد أُبطلت تماماً.
في البايولوجي، نظرية دارون التي نصّت بأن الأنواع تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، جعلت العلماء أن يعيدوا النظر في النظريات القديمة، والتي كانت تستند على الفكرة القائلة بأن الأنواع لا تتغير.
في علوم الأرض، الثورة العلمية التي حصلت في الستينيات من القرن الماضي، تمخّضت عن نموذج جديد، وهو أن القشرة الخارجية للأرض تتألف من أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وهي في حركة مستمرة. وأن شكل القشرة الأرضية هو في تغيّر مستمر، محدثاً الجبال، القارات والمحيطات. وهذا النموذج، الذي سمي بـ "نظرية الصفائح" جعل علماء الأرض أن يضعوا جانباً كل النظريات السابقة المتَجذّرة في فكرة القارات الثابتة، وإعادة بناء تفكير جديد بخصوص تاريخ الأرض.
الثورات العلمية تكون صعبة ومثيرة للجدل، لأنها تتطلب ترك طرق تفكير مقبولة. وذلك ما يجعلها مشوقة. إلا أنها ليس فقط تمدّ العلماء بأفكار ونظريات جديدة، حول كيفية عمل الطبيعة، وإنما ببصيرة جديدة أيضـاً. 
               
   
سعيد لوقا
(تلخيص وترجمة)
46



تعليقات