الخارجون عن الدستور


 الخارجون عن الدستور

خرج الفقراء العزل الى الشوارع ليصوتوا رغم الموت، لأن الارهاب ببساطة لا يردع البؤساء.. نزف الفقراء في درب الانتخابات مثلما نزف المسيح في درب الصليب، ورغم الموت الذي كان متربصاً لهم في الطرقات والأزقة، الاّ انهم خرجوا من الخراب ليصوتوا ضد من سلب منهم حتى الرغيف، وانتصروا كما انتصر المسيح على قاتليه.  
من المؤسف جداً ان يكون الحزب الحاكم في بغداد متورطاً في تلك التهديدات والتفجيرات، وكم هو مؤسف ان يُنتهك القانون من قبل قائمة تطلق على نفسها قائمة دولة القانون، حتى وصل الأمر بالمالكي الى التهديد علانية في وسائل الاعلام  بعودة العنف.. وما جرى في الخفاء كان أعظم، هذه اشارة تؤكد بان الديمقراطية مازالت غائبة.. أليس هذا انقلاباً على الانتخابات التي كلفت العراقيين دماء غالية، وستكلفهم اكثر اذا ما تشكلت الحكومة من قِبَل مَنْ لا هَمَّ لهم سوى اقتسام المال العام. لطالما حلمنا بدستور يضمن حقوق الجميع، وقد تحقق الحلم و ولد الدستور بعد مخاض دام عقوداً من الزمن، ولم يكن في الحسبان ابداً بان هذا الدستور قد يصبح  سبباً في فشل الديمقراطية وعودة العراق الى العبودية.
ظهرت بعد الانتخابات بعض الاشكاليات التي لم تكن في الحسبان:- الاشكالية الاولى والأكثر خطورة هي الفقرة 76 من الفصل الثاني من الدستور العراقي، التي اثيرت حولها ضجة كبيرة من قبل بعض الكتل الخاسرة للنيل من ارادة الشعب، لقد تم استغلال الفقرة للبقاء في السلطة رغم انف الشعب، مفسرين الفقرة حسب اهوائهم. الفقرة واضحة جداً لا تقبل التفسير بشكل آخر، حيث تقول هذه الفقرة ما يلي: يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية. ان الكتلة الاكثر عدداً هي بالطبع التي فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، هذا هو ما تعنيه  الفقرة. اما التفسير الذي قدمته المحكمة الاتحادية العراقية، فهو خرق متقصد للدستور، مفسرة بان الفقرة تتكلم عن الكتلة التي تشكل الحكومة الجديدة هي التي تتمكن من جمع أكبر تحالف داخل البرلمان وليست الكتلة التي فازت في الانتخابات!! كيف يجوز لقوائم  لم تفز في الانتخابات ان تشترك وتشارك في الحكومة المقبلة، بل وان تقود عملية تشكيل الحكومة؟ لأنها وببساطة اتحدت مع قوائم اخرى وحصلت على أغلبية الاصوات، ما الجدوى إذاً من عناء الانتخابات اذا كانت التحالفات ما بعد الانتخابات هي التي ستكون الفيصل وليس رغبة العراقيين؟! هذا الغاء صريح لنتائج الانتخابات و لإرادة العراقيين وخروج عن  الدستور.. هذا ظلم بحق القائمة التي فازت بالانتخابات وبحق الشعب الذي تحدى الموت والارهاب لينتخب.
الاشكالية الثانية التي لا اشكالية فيها، هي مَنْ سيشغل  منصب رئاسة الجمهورية ؟ اثيرت حول هذا الموضوع كثير من الآراء والتصريحات، فتارة يقولون ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون عربياً، مبررين ذلك بان العراق دولة عربية ورئيس الجمهورية يجب ان يكون عربياً، وتارة يقولون ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون عربياً مبررين ذلك بان الاغلبية عربية! ما علاقة عروبة العراق والاغلبية العربية برئاسة الجمهورية؟ أليس هناك دستور؟ أليس الجميع سواسية امام الدستور؟ تقول المادة 67 من الفصل الثاني   ما يلي: "ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية باغلبية ثلثي عدد اعضائه"، اي ان مَنْ سيفوز بثلثي اصوات البرلمان سيكون رئيساً للجمهورية بغض النظر عن قوميته، ليس هناك اشارة الى قومية رئيس الجمهورية، انه انتهاك واضح وخروج عن الدستور الذي صادقت عليه جميع الكتل السياسية. يجب احترام الدستور بجميع فصوله وفقراته، لا ان نتمسك بفقرة ونهمل فقرة اخرى. أيّة ديمقراطية هذه التي يتكلمون عنها وهم ينظرون الى المكونات غير العربية بنظرة اقل شأناً؟! متناسين بأن اي عراقي من الكتل السياسية المشاركة بالعملية السياسية هو مواطن عراقي من الدرجة الاولى، ويحق له الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية  بغض النظر عن قوميته أو دينه، وعلينا ان ننسى مسألة الأقلية والأغلبية، لأنها مسألة تثير مشاعر أليمة لدى الأقلية، و لن تكون باشكالية اذا كان هناك فكر ديمقراطي، اما الواقع فيظهر ان هذه الاشكالية مازالت موجودة بعمق بين العراقيين، لأنهم لايؤمنون بالديمقراطية من القلب، بل هي كلمة تخرج من الفم.. مازال امامنا الكثير من الوقت لتنسى الاكثرية مصطلح الأقلية، وتنظر الى الاقليات الاخرى كمواطنين من الدرجة الاولى، ويتمتعون بكامل الحقوق  كالآخرين من الأكثرية.
و الاشكالية الثالثة،  هي ما دعت اليه بعض الكتل الى تشكيل طاولة مستديرة لتسوية وتقريب وجهات النظر بين الكتل الفائزة بمقاعد كثيرة، هذا يعني ان بعض الشخصيات التى شاركت في الحكومة المنتهية من الذين لا يشهد لهم العراق أية مواقف ايجابية، ستظهر في الحكومة الجديدة، فهل هناك ضمانات بأن هؤلاء سوف يتغيرون نحو الأحسن ويتجاوزون اخطاء الماضي؟ ياترى أيّة كتلة ستكون المعارضة في البرلمان؟ يبدو انه لن يكون هناك معارضة في البرلمان العراقي، لأن حتى الآن لم تصرح اي من الكتل السياسية حتى التي حصلت على مقاعد قليلة، انها ستدخل البرلمان القادم كمعارضة.. أي برلمان سيكون برلماننا اذا كان الجميع متفقين أو صاروا متفقين بعد ان نالت كل كتلة حصتها من الوليمة؟! ببساطة لا يكون البرلمان برلماناً حقيقياً اذا كان لا يضم فئة معارضة.
اما بخصوص تشكيل ائتلافات اخرى بعد الانتخابات لتشكيل اكبر كتلة -كما تدعي المحكمة الاتحادية العراقية- فهذه اشكالية خطيرة ايضاً. من الطبيعي ان تحدث ائتلافات بين الكتل السياسية التي تتبنى خطاباً سياسياً متشابهاً أو متقارباً الى حد ما قبل الدخول الى المعركة الانتخابية، أية حكومة يمكن ان تتشكل من كتل تمر بعدة مراحل من الائتلافات قبل الانتخابات، ثم بعد الانتخابات، وربما بعد تشكيل الحكومة؟ أيّة حكومة ستكون، وقد بدأت مشوارها منذ البداية بتنازلات ومساومات على حساب برنامجها الذي اطلقته قبل الانتخابات؟ لابد وان هكذا ائتلافات ستؤثر بشكل سلبي وخاصة على الكتلة الفائزة في الانتخابات، لأنها ستضطر الى تقديم تنازلات مع من لم تأتلف معهم قبل الانتخابات لاسباب جوهرية، وهذا لن يصب في مصلحة العراق دولةً وشعباً. اي ائتلاف غير سليم سيؤدي الى احباط شديد في معنويات العراقيين، وقد يؤثر ذلك على سير العملية الديمقراطية في المستقبل.. مَنْ ياترى سيذهب الى التصويت في المرة القادمة اذا نجح مَنْ لم تصوت له الاغلبية من الشعب في تسلم الحكم؟! ان حدث ذلك، فإن العراق سيغرق مرة أخرى بسلسلة طويلة من الانقلابات العسكرية، كما كان يحدث في السابق.
رمزي يوسف شابو


تعليقات